"أبو مسامح" بين الإرادة والإعاقة ...أُصلح الوقت
قبل ثلاثين عاما ..من مهنة "الطوبار" التي تسببت لعيسى بإعاقة مستديمة، إلى لقب أشهر "ساعاتي" في محافظة إربد، عرف عيسى بفطنته في تذكر وجوه المارة بكل ملامحها وإيماءاتها، وقدرته على مجابهة الأحداث يوماً بعد يوم، فما إن سألناه على حدث قبل ثلاثين عاماً في وسط البلد، فتراه سارداً تفاصيله مع أعداد الشخوص وتوقيت الحدث.
ساعاتي إربد .. أحد معالم شارع السينما
انحناءة أكتافه التي يوازي عمرها شارع السينما في مدينة إربد، ومكان كرسيّه الذي أصبح معلماً يرافق وجوده طوال اليوم، وما إن غاب افتقده مارة الشارع وكل من ألف وجوده في ذاك المكان، كان لهم الأثر الأكبر في تأريخ "وجود عيسى" وتسمية نهاية الشارع باسم "عند الساعاتي".
عيسى أبو مسامح رجل أردني في الخامسة والخمسون من عمره، يقطن في أطراف محافظة إربد، كانت إصابته في ورشة "الطوبار" هي الحدث الذي غيّر مسار حياته في عامه الخامس والعشرين، ليضطر بعدها عيسى على أن يركن أقدامه إلى الأبد، ويبتكر مهنة يستطيع من خلالها ألا يستخدم أقدامه.
يؤكد أبو مسامح أهمية الوقت في حياته قائلاً "فقدت أقدامي بحادثة مفاجئة وكان ممكن أن تتوقف حياتي تلك اللحظة لكني استمريت في السعي لأن هذا الوقت يمر من عمري ولأنني اضطررت أن أوظف يداي بدلاً من أقدامي لجأت لتعلم مهنة إصلاح الساعات وبيعها من معلّم ساعات كبير السن في وسط البلد".
ويضيف عن مهنة بيع الساعات وإصلاحها "قبل 30 عاماً بدأت أتدرب يوماً بعد يوم في صنع الساعات تقديراً مني للوقت الذي يفنيه الإنسان دون أن يشعر، بت ألحظ كل دقيقة وثانية تمر" ويضيف عزمت على بناء عائلة فتزوجت بامرأة احترمت ضعفي وقدّرت ما مررت فيه من معاناة مع الإعاقة، أنجب منها ثلاثة أطفال يحمل إثنان منهم إعاقته الجسدية ويدرسون في المدرسة الإعدادية.
فناء الشباب ..كيف يتلف الذاكرة ؟
اليوم في عقده الخامس لا يزال كل صباح يجابه مأساة الحياة من خلال بيعها للناس وإصلاح تلفها، منوهاً "شهدت مدينة اربد منذ نشأتها، عشت فيها الهم والفرح، تعلمت أن أكثر ما تعطيه يفنيك من داخلك ولو كنت تعشقه، تعلمت أن الوقت يخون إذا لم تتنبه له"، هكذا رثى عيسى شبابه الذي أفناه في بيع الساعات وإصلاحها جالساً على كرسيه يلحظ المارة محدقاً في أقدامهم المشاة.
يخبرنا عيسى تفاصيل مشاق المهنة التي تتعب كاهله "أرهقتني هذه الانحناءة جداً، وأتلف الوقت شريط ذاكرتي، لكني مجبرا على الجلوس هنا يومياً من التاسعة صباحاً حتى السادسة مساءً"، ففي عقده الخامس لا يعرف إلا هذه المهنة ولا يتقن سواها، عدا عن إعاقته التي حتمت عليه جلوسه بهذه الطريقة.
"بعت آلاف الساعات، رأيت شارع السينما منذ أن كانت هنا السينما الحقيقية"، اليوم لا يزال يعمل في نفس المكان، إلا أن المواقف التي رآها من البشر من ذل وإهانة لإعاقته أكثر ذهولا مما خيلت له نفسه يشرح عيسى حياته اليومية على كرسيه الرث.
وبصوتٍ خافت يقول "الساعات التي أبيعها من النخب الثالث، تأتيني من تاجر من عمان يزودني فيها كل شهور عديدة، وأبيعها بمبالغ زهيدة لاعتاش منها، ويختتم أبو مسامح حديثه معلّقاً "الوقت بده يمر كيف ما كان، اعتدتُ ذلك".