«التسوّل» لم يعد «مهنة» المتسولين وحدهم
منذ أن تحوّل "التسوّل" من حاجة إلى "مهنة" ، طرأت على طرائقه وأشكاله والمشتغلين فيه ، تغيرات كبيرة ، أهمها أن "التسوّل" لم يعد "مهنة" المتسولين وحدهم ، خصوصا بعد تفاقم الضائقة الاقتصادية وانعكاس تداعياتها الاجتماعية بأوخم العواقب على حياة فئات متزايدة من المواطنين.
بائعو الصحف اليومية الذين طالما احتفظوا بطلة محببة ، وطالما سعدنا بمداعبتهم وتبادل الأحاديث القصيرة معهم عند إشارات المرور الضوئية ، هؤلاء تتحول أعداد متزايدة منهم إلى ممارسة "التسوّل" عند الإشارات ذاتها ، أحيانا يختلط بيع الصحف بالاستجداء و"الشحدة" ، وأحيانا أخرى يتحول هؤلاء إلى "التسوّل" ما أن يفرغوا من بيع ما بحوزتهم من صحف.
زملاؤهم عند الإشارات من الباعة المتجولين و"مسّاحي" الزجاج الأمامي للسيارات ، يتحولون بدورهم إلى التسوّل" ، فأنت لم تعد تعرف ما إذا كان "البائع" يجهد في إقناعك بجودة سلعته ومدى حاجتك إليها ، أم أنه يمهد للانتقال بـ"المفاوضات" الصعبة الدائرة بينك وبينه إلى طلب المساعدة المباشرة ونصرة الملهوف واستجداء بعض المال لسد الرمق وشراء الرغيف ومعالجة الطفلة التي لم تقو على الذهاب إلى المدرسة لشدة مرضها.
حتى بعض سائقي التاكسي ، أخذوا يتسللون شيئا فشيئا إلى ميدان "التسوّل" ، وغابت عن كثيرين منهم لغة "العنتريات والتشبيح" التي اعتدنا سماعها منهم ، هذا يسرد على مسمعك رواية مأساوية عن حاجة "عائلة يعرفها" للمال ، وذلك يبدأ حديث بتوجيه اللعنة لليوم الذي عمل فيه سائقا ، خصوصا بعد أن أصبحت المهنة "مش جايبة همها" ، وبعد أن أصبح غير قادر على توفير قوت عائلته وسداد فواتيره ، وشراء دفاتر لأبنائه الصغار ، والهدف بالطبع ، الاحتفاظ بـ"الباقي" وعدم إعادته إليك ، واعتباره مساهمة إضافية منك لتمكينه من تجاوز محنته.
تتعدد الروايات المأساوية وتتنوع أشكال "التسوّل والشحدة" لكن النتيجة واحدة: فئات متزايدة من السكان تزداد فقرا وتتفاقم حاجتها...وعمليات نصب واحتيال وسعي للحصول على "المال السريع وغير المكلف" من قبل فئات متزايدة أيضا من الناس.
أبشع ما يصادفك ، شاب في مقتبل العمر ، لديه من الصحة والعافية ما يكفي لـ"نقل جبل من مطرحه" ، يقف أمامك متذللا ، وعندما تخبره أن شابا في عمره ، يغسل السيارات في حارتك ، ويحصل شهريا على ما يزيد عن أربعمائة دينار ، يغمض عينيه ويغلق أذنيه ، ويلوي عنك من دون استئذان ، فهو لا يريد سماع هذا "الموشح" من أي كان ، فالوقوف على الإشارة وإتقان فنون "الشحدة" وبكائّياتها ، كفيل بتوفير مبالغ أكبر ، وبجهد أقل ، حتى وإن كانت الكلفة ، إهدار الكرامة والأخلاق وما تبقى من ماء الوجه ، إن كان لهؤلاء وجوه فيها مياه لتراق.
يختلط عليك حابل الاحتياج بنابل الاحتيال ، فلا تعود قادرا على التمييز بين "الفقراء المحاجين فعلا" من بين جيوش المتسولين المنتشرة في الشوارع من جهة ، والنصابين الذين اتخذوا من "التسوّل" مهنة لهم ، ونظموا الشبكات وأجروا الأبحاث ودراسات الجدوى حول أفضل أماكن "التسوّل" وأوقاته ووسائله والقائمين عليه من جهة أخرى.
نحن بحاجة لمراجعة هذا الملف وتقليب صفحاته باستمرار ، فلا يجوز أن يترك هؤلاء "سائبين" على قارعة الطرق ومفترقاتها ، ولا يجوز لبعض المهن المحترمة أن تختلط بالتسوّل وتتداخل معه ، ولا يجوز لناشري الصحف أن يتركوا صحفهم في غير الأيدي التي اعتدنا أن نتلقفها منها ، والأهم من كل هذا وذاك ، ما يتعين على المواطن فعله حيال هؤلاء ، فتجاهلهم وعدم تشجيعهم على الاستمرار في أعمالهم الاحتيالية أمر مهم ، وأقصر الطرق لاجتثاث هذه الظاهرة ، أما الفقراء من بيننا والمحتاجين حقا من مواطنينا ، فلن نعدم وسيلة لمعرفتهم والوصول إليهم ومد يد العون لهم ما أمكننا إلى ذلك سبيلا.











































