هل ينشأ إعلام عربي أقل رداءة؟

هل ينشأ إعلام عربي أقل رداءة؟

رغم ثورة الإنترنت، وعصف رياح التغيير بالمنطقة، إلا أن الإعلام العربي يحتاج سنوات عديدة لكسر الطوق الذي لفّه حول رقبته كحليف للسلطة، ولرسم دوره المفترض كرقيب على الحاكم وحارس للمجتمع من تحالف أصحاب النفوذ والمال.

 هذه هي خلاصة حوارات وتفاكر أزيد من 300 صحفي وأكاديمي شاركوا في مؤتمر "أريج" السنوي السادس حول صحافة الاستقصاء في العالم العربي، مطلع الشهر الحالي في عمان. وأسباب ذلك عديدة؛ منها قانونية، وسياسية، وثقافية، ومجتمعية، فضلا عن عوامل لها علاقة بالعقل الجمعي، من قبيل الأعراف والموروث الاجتماعي.

فالتحول الإعلامي يتطلب وقتا ونضجا، وصولا إلى هدف نهائي واضح، حاله كحال التغيير السياسي والاقتصادي والمجتمعي والثقافي. والأرضية لم تتغير، فيما بقيت الأدوات ذاتها أيضا.

غالبية الإعلاميين يأتون من رحم مجتمعات ذكورية محافظة (اجتماعيا ودينيا)، عاشت لعقود في كنف أنظمة شمولية قائمة على أسس البطريركية السياسية؛ لا مكان فيها لتقبّل الرأي الآخر وللتعددية الفكرية والثقافية والسياسية. كما لا مكان فيها لحقوق المرأة والطفل، رغم تلال القوانين المنمقة ذات الصلة، لإرضاء الخارج.

وهؤلاء الإعلاميون هم نتاج عملية تعليمية تلقينية رديئة، في المدارس والجامعات الرسمية، لا تشجع على التفكير النقدي والمحاججة المنطقية والعلمية، القائمة على حقائق ومعلومات متاحة. كما أنهم انعكاس لحال الاستقطاب السياسي والديني والعرقي السائد في مجتمعات ذات غالبية عشائرية، ووقود لمسرحية إشغال الشعوب بلعبة توفير لقمة العيش، بعد أن فُطمت على الأنانية الفردية واستجداء السلطة لنيل ما يفترض أنها حقوقها الدستورية.

فاقد الشيء لا يعطيه.

نجد اليوم أن غالبية الإعلاميين العرب صورة عن مجتمعاتهم التي لم تكن جاهزة للتعامل مع تداعيات تغيير كشف مشهداً سياسياً يخضع لثنائية الحزب الحاكم (السلطة) والتيارات الدينية، بمن فيها جماعة الإخوان المسلمين. وكلاهما يستند إلى إقصاء الآخر.

يجهلون أن الديمقراطية عملية تحول تراكمي، في مجتمع مدني ناشط، وبوجود طبقة وسطى تتمدد، ونظام تعليمي متميز، وخدمات صحية متطورة، واقتصاد سوق يشجع المبادرات الفردية بعيدا عن الاحتكار. والديمقراطية تحتاج أيضا إلى ضمانات دستورية لحرية الرأي والكلمة، وحق الوصول إلى المعلومات، وآلية لمساءلة من يجلس على مقعد السلطة كونه خادما للشعب دافع الضرائب.

في عالمنا، تغيّرت الوجوه، لكن الحاكم الجديد -حاله حال القديم- ما يزال ممعنا في السيطرة على الإعلام، على أمل كسب عقول وقلوب الناس. والجديد فعلا هو دخول تحالف جديد بين رأس المال والسلطات الخارجة من المشهد أو الداخلة إليه، لتمويل قنوات فضائية ومؤسسات إعلامية أطلق عليها "خاصة" أو "مستقلة"، لأن رأس مالها لم يأت من الشعب، لكنها لا تمت بصلة للاستقلال المهني أو لنواميس مهنة المتاعب. وزادت للأسف جرعة "اللامهنية" على حساب حق الرأي العام في المعرفة. أما الإعلاميون، فغالبيتهم وجدوا أنفسهم بين ليلة وضحاها على مشارف محيط هائج، عليهم السباحة فيه من دون أن يمتلكوا مهارات العوم الأساسية.

يفاقم هذه الأوضاع، الاستقطاب والتحشيد اللذان تمارسهما غالبية وسائل الإعلام ذات الملكية العامة أو الخاصة، وبخاصة في المشهد المصري المحتقن منذ الانقلاب العسكري قبل أربعة أشهر، والمدعوم بغطاء مجتمعي، على محمد مرسي أول رئيس إخواني منتخب.

ففي مصر، فقد الإعلام الخاص الكثير من صدقيته عندما انبرى القائمون عليه "طواعية" للدفاع عن الانقلاب، وغض النظر عن انتهاكات حقوق الإنسان واعتقالات توسعت لتشمل نشطاء غير إسلاميين، ليسوا راضين عن أحوال بلادهم وتجاوزات بعض الإعلاميين. بينما يشن كتّاب حملات على كل رأي مخالف؛ يتصرفون تماما على منوال الإعلام الإخواني زمن مرسي، والذي أمعن في اغتيال شخصية الآخر وشيطنته، مقابل تعبئة غالبية وسائل الإعلام الخاص وتحشيدها ضد سياسات الإخوان، مع ممارسة الرقابة والمساءلة قبل أن يتخلوا عنها هذه الأيام. حال من الهستيريا تسيطر على داعمي الانقلاب ومناوئيه. ينسحب الأمر على الإعلام؛ ماكينة تشكيل الرأي العام وتحريكه.

الإعلامي المخضرم يحيى غانم -المقيم منذ ستة أشهر في منفاه القسري واشنطن، عقب صدور حكم بحبسه عامين في قضية ما يعرف بالتمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني في بلاده- يرى أن أداء الإعلام في مصر تحول من حلم إلى كابوس. ويقول غانم: "أداء الإعلام أحاله إلى سلاح قاتل، بدلا من أداء واجبه في حماية البشر، خصوصا في ظل افتقار الصحافة العربية لعناصر الاستقلال التي تمكنها من القيام بدورها بالمحاسبة والمراقبة".

مشهد الإعلام العربي يبعث على الأسى، كحال المشهد السياسي والاقتصادي في دول التحول العربي، منذ الإطاحة بنظامي زين العابدين بن علي وحسني مبارك قبل عامين.

ففي البحرين وتونس والأردن ومصر واليمن وسورية، وقع الإعلام ضحية استقطاب حاد بين أطراف النزاع؛ من كان يجلس في الحكم ومن دخل إليه. تغيرت الوجوه، لكن المواقف ظلت على حالها؛ فولاء الصحفي لمن يدفع الرواتب.

ففي اليمن -حيث تعرض 180 إعلاميا لاعتداءات خلال العام 2013 من اللاعبين السياسيين- عادت السلطات التابعة للرئيس السابق علي عبدالله صالح إلى المشهد عبر بوابات مؤسسات إعلام جديدة. معظم من رحل عن الحكم من النظام السابق، عاد ليشتغل في الإعلام؛ إذ يمتلك وجوه هذه النظام أكبر منظومة إعلامية في اليمن هذه الأيام. وغالبية الاعتداءات ذهبت من دون محاسبة؛ في اليمن كما في سائر الدول العربية.

في تونس، غالبية التشريعات التي أقرتها الحكومة الانتقالية عقب رحيل بن علي، لتوسيع هوامش الحريات وضمان حق النفاذ إلى المعلومات، ما تزال حبرا على ورق، في انتظار إقرارها من السلطة الجديدة. وتتواصل حملات إسكات الرأي الآخر على حساب التضحية بالمهنية. فرغم ارتفاع سقف الحريات، ما انفك الصحفيون يُحاكَمون وفق "المجلة الجزائية"، ما يحد من قدرتهم على أداء دورهم الرقابي بفعالية. وما فتئ الإعلام الرسمي يتخبط في ظل التعبئة السياسية لمن يجلس على الكرسي، بينما تصدح أصوات الطرف الآخر وفق مبدأ: "العين بالعين والسن بالسن..".

سورية القابعة بين مطرقة نظام الرئيس بشار الأسد الذي يصارع من أجل بقائه، وبين سندان خليط من المعارضة الجهادية والمدنية والليبرالية، تحولت إلى مقبرة للصحفيين. هناك، باتت الحقيقة هي الضحية والقتيلة، لأن الإعلام أصبح بيد أشخاص يفتقرون للمهنية، وسط ازدياد الاعتماد على "الصحفيين المواطنين" في تغطية أخبار الفرقاء من دون التوثق من الوجبات الإعلامية المقدمة.

وفي الأردن، تنبري غالبية ما تبقى من وسائل الإعلام الخاصة، حال الرسمية، للدفاع عن الخطاب الرسمي، وتتحاشى تغطية قضايا داخلية حساسة؛ مثل اعتقال ومحاكمات نشطاء وحراكيين وصحفيين أمام محكمة أمن الدولة. كما لا تتحدث عن التضييقات الممنهجة على حرية الكلمة، وتشيطن المعارضة وبخاصة الإسلامية منها.

في البحرين، الحال ليست أفضل منذ إسكات المعارضة.

لكن، هل يستسلم الإعلامي ويركن في حضن السلطة الدافئ؟

لا. فهناك عوامل تلعب لصالحه، أهمها ثورة الإنترنت والمعلومات. وهي الجائزة الكبرى في مصلحة التحول صوب مسار ديمقراطي؛ بحماية قيم تحرص على حقوق الإنسان الأساسية، وبناء دول قائمة على المواطنة والقانون والسلطات المستقلة.

ويبقى الأمل في أن ينتزع الإعلاميون حقوقهم، لأنها لن تعطى لهم على طبق من ذهب. وعليهم احترام ميثاق شرف المهنة، والإيمان بدورهم الرقابي في خدمة المجتمع وتوسيع ثقافته الحقوقية. وعليهم أيضا تطوير مهاراتهم ولغاتهم ومعرفتهم، لكي يقتربوا أكثر فأكثر من فضلى الممارسات الإعلامية الدولية المحترفة

الغد

أضف تعليقك