من سيلملم شظايا قنبلة أبو الراغب التلفزيونية?

من سيلملم شظايا قنبلة أبو الراغب التلفزيونية?

إطلالة رئيس الوزراء الأسبق المهندس علي ابو الراغب عبر قناة تلفزيون محلية خاصة قبل أيام ليبرئ سجّله الإشكالي من كم هائل من التهم والشبهات التي طالته وحكومته بين عامي 2000 و2003 كان مؤسفا ومقلقا, لجهة مسؤوليات رئيس الحكومة وصلاحياته في وقت تفتح فيه ملفات الفساد تحت ضغط الشارع.

فأبو الراغب, الذي استهل حياته السياسية نائبا إصلاحيا بنفس قومي عام ,1988 أزاح أصبع الاتهام عنه باتجاه القصر لتبرئة ساحته ممّا باتت تعرف ببدايات نقل ملكية أراضي الخزينة للديوان قبل أن تتصدر هذه القضية مطالب نبش الفساد ومحاكمة الفاسدين أولويات حركات الاحتجاج الشعبي وأحزاب المعارضة بقيادة الإسلاميين.

لكنه نسي أو ربما تناسى أنه كان, بحكم منصبه آنذاك, صاحب الولاية العامة للدولة ويخضع للمساءلة أمام مجلس الأمة والملك بحسب المادة 49 من الدستور: "أوامر الملك الشفاهية والخطية لا تخلي الوزراء من مسؤوليتهم".

مقابلة محزنة لأن تبريراته المتأخرة أظهرت كيفية قيام رئيس الوزراء والوزراء بنكث القسم الدستوري الذي يؤدونه أمام الملك قبل مباشرتهم اعمالهم. مريدو ابي الراغب وصفوا الكشف الصحافي بأنه جريء, صريح وضروري لرد الاعتبار لشخصه فيما رأى فيه آخرون تطاولا على المقام السامي يستوجب ملاحقة قانونية.

مسؤول السلطة التنفيذية يردد ويده على القرآن الكريم أو الإنجيل المقدس: "اقسم بالله العظيم أن أكون مخلصا للملك وأن أحافظ على الدستور وأن أخدم الأمة وأقوم بالواجبات الموكولة إلي بأمانة". على أن غالبيتهم ينسون فحوى الكلمات التي يردودنها ومراميها بمجرد خروجهم من حفل التنصيب. وعندما يتركون الكرسي, بالإقالة أو الاستقالة, ينضم غالبيتهم إلى صالونات الشغب السياسي لممارسة الطخ على من حل مكانهم. فالدنيا "خراب" من بعدهم.

مقابلة مؤسفة ومقلقة لأنه بالغ في دفاعه المستميت عن سمعة وانجازات الحكومات الثلاث التي شكلها كثاني رئيس للوزراء - في عهد الملك عبد الله الثاني - وأطولهم بقاء في الدوار الرابع. تناسى أبو الراغب ربما أن التاريخ وأرشيف الصحف وذاكرة الوطن لن تنسى انه كان الرئيس الذي دشن حقبة جديدة من السياسات الإشكالية التي يدفع الأردن ثمنها اليوم. فحقبته شهدت بدء تراجع المسار الديمقراطي, انحسار الحريات الإعلامية والأجواء الديمقراطية, تداخل التجارة بالحكم, تنامي الفساد والإفساد السياسي والمالي والإداري, وتقهقر هيبة الدولة الأردنية.

مقابلة أبو الراغب مع فضائية "رؤيا" وفّرت له فرصة نادرة لتبرير سياسات رجل دولة ساهم في دفع البلاد إلى الأزمة السياسية, الاقتصادية والاجتماعية التي تعصف بها اليوم.

المشكلة الأكبر أن الزميل الدكتور محمد الحباشنة مقدم برنامج "نبض الشارع" (حديث الناس منذ انطلاق المحطة مطلع العام الحالي) تحاشى مقارعة حجج أبو الراغب, بخلاف ما كان متوقعا منه, بالاستناد إلى وثائق ووقائع وأيضا انطباعات شابت عهده. وهو لم يسهب في "نبش" المعلومات التي وفرتها إجابات محاوره. ولم ينتزع منه معلومات تمس عمليات تهريب النفط من العراق وبيعه والتصرف بسعره من صفقات توقفت مع سقوط نظام صدام حسين عام 2003 ووثقت ضمن تقرير أممي صدر قبل سنوات. في المقابل سمح المحاور لأبي الراغب بالاستطراد في شرح دوره في مواصلة الحصول على منحة النفط العراقي الرسمية بأسعار تفضيلية حين زار بغداد خريف عام ,2000 ولم يناقش دوره كعراب منطقة العقبة الاقتصادية الخاصة التي ما تزال مثار جدل حتى اليوم, بعد أن مرّرها من خلال المجلس الاستشاري الاقتصادي الذي انقلب عليه بعد دخوله دار الرئاسة بعام.

ولم يسأله المحاور لماذا سمح بدخول رجل أعمال إشكالي بات اليوم عنوان محاكمة الفساد على خط تهريب نفط عراقي بعد سقوط نظام صدام عبر شركة "ميلينيوم", في وقت كان يفترض بتلك الكميات أن لا تزيد عن تأمين احتياجات الأردن من النفط. لماذا لم تعقد الصفقة مباشرة بين الحكومتين? كذلك لم يسأله عن مصير تجميد الأصول العراقية التي دخل تحت لواء لجنتها أموال صدام, أموال التجار, وأموال البروتوكول التجاري بين البلدين.

للأسف ترك د. الحباشنة المجال لأبي الراغب لغسل ذنوبه, ولوم أصحاب دولة ومتنفذّين آخرين على ما آلت إليه أوضاع الوطن. سمح له التأكيد بأنه ووزراءه بعيدون عن ظلال شبهات فساد, أو إساءة للمال العام أو قضايا تمس الوطن بشيء. سمح له تأكيد "اننا في دولة يجب أن يحترم دستورها". سمح له بالدفاع عن المنجزات الاقتصادية التي تحققت خلال رئاسته, حين بلغ عجز الموازنة عام 2003 حوالي 3% من الناتج القومي, وكان جزءا منها صوريا لنيل مساعدات خارجية, بحسب ما قال أبو الراغب. لم يبحث المحاور في هذه الاعترافات التي صمّت بجرأتها آذان الدول الغربية والعربية المانحة.

خلال المقابلة, انتقد ابو الراغب توجه الدولة غير المسبوق نحو زيادة الإنفاق بدءا من عامي 2004 و,2005 لكنه لم يذكر لماذا لم يحاول دق جرس الإنذار من خلال مجلس الأعيان الذي جلس على مقاعده لسنوات قبل أن يخرج منه أخيرا.

لعب النائب - السياسي - رجل الأعمال على وتر شعبي حساس عندما هاجم الليبراليين, قائلا: "إنهم كانوا يندفعون صوب الخصخصة من دون ضوابط, ولا يملكون الفطرة التي عاشها الآخرون". وأكد أيضا أنه كان له الدور الأكبر في تشكيل حكوماته وأن المخابرات - التي كان على علاقة طيبة ووثيقة وحميمة برئيسها آنذاك, لم تتدخل في تسمية الأشخاص كما هي العادة.

عودة إلى ملف نقل ملكية وبيوع أراضي الدولة التي بدأت في عهد أبو الراغب. فعندما قبل الانصياع لأوامر كتاب من الديوان الملكي أحضره أمينه العام حينها سمير الرفاعي, ومفاده: "ان لدى جلالة الملك مشاريع خيرية وتنموية كثيرة" يريد أن يصرف عليها, دخل أبو الراغب كشريك فعلي في نقطة تحول جوهري سلبي مسّت مفاصل الحياة السياسية في الوطن. ولن يستطيع الإفلات من المسؤولية الأدبية والدستورية التي ستلاحقه للأبد لأنه وافق على تحويل الكتاب إلى لجنة إدارة أملاك الدولة المعنية بتسجيل الأراضي وتفويضها. فتاريخ الأردن الحديث لم يخل من مواقف رؤساء وزارات ووزراء توقفوا عند أوامر ملكية ولم ينفذوها مثل أحمد عبيدات, ومنهم من فضّل الاستقالة مثل المرحومين وصفي التل وتوفيق ابو الهدى.

كان الأولى بأبي الراغب, وهو مقاول ورجل أعمال ناجح وابن أسرة اقتصادية ميسورة ذات اعتبار في أوساط النخب والعامة, أن يفكر مئة مرة قبل قبول ذلك الطلب لحماية العرش الذي يفترض أن نفتديه جميعا. فهو لم يكن رئيسا تنفيذيا مرعوبا لشركة علاقات عامة, أو كبير الموظفين التنفيذيين في "امبراطوية ميم" حتى يخشى من تنحيته. فتغيير آلية إدارة ملكية أراضي الخزينة العامة, التي حصّنت وقتها بفتوى سياسية وفرتها شخصية متنفذة جلست على مقاعد مجلس الأعيان, كانت نقطة بدء مرحلة تطاول السلطة التنفيذية على الدولة وبالعكس. بداية مرحلة سيئة الصيت ساهمت في انحدار شرعية الدولة بصمت وتدريجيا قبل أن تتكشف للعلن منتصف 2007 على وقع شد بين لاعبين رئيسيين كانا يتحكمان بمفاصل صناعة القرار قبل أن يقالا من منصبيهما.

قبل ذلك حلّت حكومة أبو الراغب مجلس النواب الثالث عشر (1997-2001) قبل انتهاء مدته الدستورية - وإن كان القرار دستوريا - ما عطل الحياة النيابية وسمح للسلطة التنفيذية بالانفراد في إدارة شؤون البلاد ومس أسس مرتكزات النظام النيابي. وتم تأجيل الانتخابات لأكثر من عامين. وفي عام ,2002 وفي غياب السلطة التشريعية, أصدرت حكومة أبو الراغب 217 قانونا مؤقتا تحت ذريعة الضرورة غير الموجودة واقعيا ودستوريا, وعلى نحو غير مسبوق في تاريخ الحكومات حتى في مرحلة ما قبل التحول نحو الديمقراطية عام ,1988 من بينها قوانين ناظمة للحياة السياسية مثل الانتخاب, الأحزاب السياسية والمطبوعات والنشر, وليس فقط قوانين ذات صبغة اقتصادية مثل قانون فك احتكار شركات الحديد. من بعض نتائج تلك القوانين إضعاف مجلس الأمة وتراجع فاعليته في المراقبة والتشريع.

أما وبعد أن تجرأت فضائية رؤيا على استضافة أبي الراغب للحصول على إجابات "تفش الغل" كما صرح المحاور لحظة بدء البرنامج, فيأمل المشاهدون الآن في أن تستضيف هذه الفضائية وغيرها سائر رؤساء الحكومات والشخصيات الإشكالية الأخرى في عهد الملك عبد الله الثاني, حتى يحاكموا أمام "السلطة الرابعة" والشعب.

فمن حق الأردنيين شهادات أصحاب المناصب الرفيعة منذ 1999: عبد الرؤوف الروابدة, فيصل الفايز, د. عدنان بدران, د. معروف البخيت, نادر الذهبي وسمير الرفاعي. من حق الرأي العام المشكك دائما أن يسمع جزءا من قصص دخولهم وخروجهم من الرئاسة في غياب محاسبة أي رئيس أو وزير خلال العقد الماضي رغم إخلالهم بتنفيذ برامجهم ومشاركتهم تراكميا في إيصال الأردن إلى الأزمة الاقتصادية-السياسية-الاجتماعية التي قسمت الشارع ومست صدقية مؤسساتنا الدستورية.

في غياب نوايا رسمية لمحاكمة النهج الماضي, وفي غياب رجال دولة مستعدين لتحمل وزر أخطاء ارتكبوها, نأمل أن يقوم رأس الدولة بمعالجة ملف الفساد والإفساد عبر خطاب يلامس المخالفات والمغالطات الهائلة التي ارتكبت خلال السنوات الماضية على أيدي رجال ائتمنهم, ليكتشف لاحقا حجم عمليات التضليل وإخفاء المعلومات بطريقة منهجية في ظل إعلام مرعوب وسلطة تنفيذية تغوّلت على سائر السلطات بسيف تعديلات الدستور والقوانين المؤقتة.

فغالبية الأردنيين تتطلع صوب المستقبل بخطى واثقة, لكن بعد عبور مرحلة عدالة انتقالية ومساءلة لموضوع الفساد وإرجاع أموال مسلوبة وأراض نقلت ملكيتها بقصد أو من دون قصد. غالبية الشعب تعلق الآمال على قانون انتخاب وأحزاب متقدم. يستتبع ذلك تعديلات دستورية لا تنتقص من صلاحيات الملك وإنما تساهم في تعزيز مبدأ فصل السلطات لحماية العرش والعباد. الغالبية منا تعلق الآمال على هيئة مكافحة الفساد التي نشطت أخيرا. وعلى مجلس الأمّة القادم وعلى محكمة أمن الدولة والمحاكم النظامية, أن يعملوا على أخذ حق الشعب من شخصيات عامة وخاصة فضّلت مصلحتها الشخصية على حساب مصلحة الوطن.

الكثير منا يريد قلب صفحة الماضي. فنحن نستحق أن نعيش في دولة القانون والمواطنة والعدالة والأمن والأمان. وهذا الوطن يستحق أن يكون أنموذجا لدولة عربية اختار "نظامها المحبوب" طواعية فرض إصلاحات شاملة, بدلا من ترك التغيير لإيقاع أجواء ربيع الديمقراطية الذي يعصف بدول قريبة وبعيدة منذ الإطاحة بحاكمي تونس ومصر.

أضف تعليقك