لقاء "دسم" مع "المواطن الأممي" أفرام نعوم تشومسكي في بون

لقاء "دسم" مع "المواطن الأممي" أفرام نعوم تشومسكي في بون

بلمح البرق، مرّت ساعة وربع أمضيناها في الاستماع إلى نعوم تشومسكي؛ الفيلسوف وعالم اللغويات الأميركي، والمؤرخ والناشط السياسي، والمنظر اليساري المعروف بمعارضته لسياسة بلاده، قبل أن يتحوّل إلى الأب الروحي لـ"حركة احتل" الأممية (Occupy Movement) المناهضة للعولمة الرأسمالية.

تشومسكي الإشكالي لم يغيّر لونه، أو يخرج من جلده، منذ أن برز ناقدا في الحرب الفيتنامية؛ ليواصل نشر أفكاره النقدية في السياسة الأميركية الخارجية والداخلية، بما فيها رأسمالية أميركا ودور وسائل الإعلام العامة (الجماهيرية) في صناعة "الإذعان"، من خلال تحالف الاقتصاد والسياسة لغسل العقول.

في محاضرته القيّمة أمام المشاركين في مؤتمر إعلام أممي في بون، أعاد تشومسكي التأكيد على مبادئه وآرائه السياسية الجريئة التي يصفها "بالأناركية التقليدية". أفكار ومواقف جلبت له تهديدات بالقتل، بتحريض من أصحاب نفوذ في الولايات المتحدة وخارجها، ممن يصفونه بـ"المنشق السياسي"، لأنهم لا يرغبون في سماع الحقيقة أو الرأي الآخر.

لكن مواقفه تضعه في خانة "المواطن العالمي" (World Citizen) المناهض للعولمة، والمطالب بنظام عالمي أكثر عدالة وشفافية وتشاركية، قائم على حماية حق إبداء الرأي والتعبير، وردم الهوة بين الفقراء والأغنياء، ووقف تلوث البيئة بفعل الشركات الكبيرة المتحكمة بالعالم.

وبرأيه، فإن نظام الرأسمالية الديمقراطية الذي تبلور في منتصف القرن الماضي، فقد الكثير من مبررات وجوده، وعمّق فجوة الثقة بين الشعوب والحكم.

قد تتفق أو تختلف مع هذا العالم الثمانيني؛ مؤلف أكثر من 100 كتاب عن الحروب والسياسة ووسائل الإعلام، تصنّف في المرتبة الثامنة من حيث الاستشهاد بها والاقتباس منها ضمن قائمة تضم الإنجيل المقدس وكارل ماركس وغيرها من الكلاسيكيات، بحسب استطلاع رأي عالمي أجري العام 2005. لكنه بالتأكيد يستحق التقدير والمتابعة والقراءة، لأنه استطاع خلق أجندة عالمية تحاكي هموم وتطلعات المواطنين المتضررين من سطوة النظام الرأسمالي.

بنبرة خافتة ورتيبة، تحدّث هذا الرجل أمام أكثر من 1000 سياسي واقتصادي وإعلامي شاركوا في ملتقى الإعلام العالمي، الذي تنظّمه قناة "دويتشه فيليه" (Deutsche Welle) سنويا في مدينة بون الألمانية. وأشار إلى انزلاق أميركا -التي ما تزال قوة عظمى- نحو انحدار لا رجعة عنه خلال العقود الماضية، بسبب تحكّم أقلية من أصحاب الثروة والنفوذ في مفاصل الحكم، لتنفيذ أجنداتهم الخاصة.

ولفت إلى تبلور ديمقراطية جديدة في بلاده خارج أطر الأحزاب التقليدية، سواء "الديمقراطي" أو الجمهوري"، التي تحظى برعاية كبرى الشركات، وذلك بفضل تنامي الغضب الشعبي من سياسات المؤسسات السياسية والاقتصادية، وتبعية الأولى للثانية وخضوعها لها.

تحدّث تشومسكي عن نشوء حركة "احتل" العالمية، التي تحمل في بذورها ديمقراطية وليدة قائمة على مشاركة القواعد في التغيير صوب الأفضل، لحماية أبناء هذه القواعد أنفسهم، وضمان حقوقهم الأساسية، بدون اللجوء إلى العنف. وقد تأثرت هذه الحركة بتداعيات ما يسمّى الربيع العربي، وانتقلت إلى 82 دولة حول العالم، بإسناد "رقمي" من ثورة الإنترنت وتدفق المعلومات.

نقطة الحشد الأبرز جاءت مع احتلال متظاهرين شباب لشارع "وول ستريت" في نيويورك (العصب المالي لأميركا) في أيلول (سبتمبر) 2011، احتجاجا على غياب العدالة الاجتماعية والاقتصادية، وأيضا لمناهضة سياسات المؤسسات المالية العملاقة التي تدير العالم لخدمة أقلية مستفيدة من غياب ضوابط قانونية، ساهم في اندلاع الأزمة المالية العالمية.

أنشطة هذه الحركة أجبرت البنوك والساسة على التصرف بطرق أكثر أخلاقية، لكنها ما تزال حركة وليدة غير متجذرة، تحتاج إلى وقت وجهد.

وسط تصفيق حاد، أنهى تشومسكي كلامه بمناشدة وسائل الإعلام والصحفيين حول العالم أن يقولوا الحقيقة، ويعكسوا مواقف وآراء عامة الشعب، وليس أصوات النخب السياسية والاقتصادية المهيمنة على صناعة الإعلام.

لم تخل محاضرته من انتقاد سياسات رئيس بلاده باراك أوباما، الداخلية والخارجية، من خلال خطاب سياسي وإعلامي يستنهض قيم الوطنية بطريقة سلبية، بهدف "غش وخداع الرأي العام".

ورأى أن سبعة من كل عشرة أميركيين يشعرون اليوم بالتهميش السياسي؛ فبلاده تخضع اليوم لنظام قائم على حكم الأغنياء للأغنياء، لكسب المال والاستئثار بالدخل القومي والثروة، وليس من خلال حكم الشعب من أجل مصالح الشعب.

إذ إن مداخيل الغالبية تتآكل، فيما الأقلية المتحكمة تزداد غنى وترفا. أما الطبقة الوسطى عماد أمن الدول واستقرارها فيتسارع تآكلها، بينما تتحول الصحة والسلامة البيئية إلى كارثة بسبب جشع الشركات الكبيرة.

لم يعد هناك أثر كبير لسياسات الرأسمالية الاقتصادية التي قامت على اقتصاد منتج بدون احتكار في سوق حرّة تخضع للعرض والطلب. اتفاقيات التجارة الحرة التي وقعتها واشنطن مع عديد عواصم، لا تمت لحرية التجارة بصلة، بل تستهدف تعزيز الاحتكار من خلال تدخل حكومي أميركي مباشر لحماية مصالح "رأس المال" المسيطر. ولوائح الحريات العامة في تراجع.

قرار محكمة العدل العليا الأميركية العام 2010 بإلغاء القيود المفروضة على الحملات الانتخابية، فتح الباب أمام استيلاء "الشركات على الديمقراطية". وبرأي تشومسكي، لم يعد لقيم "الديمقراطية" الرأسمالية حيز على الأرض؛ "فالنظام الحالي ينظر إلى عامة الشعب على أنهم سذج، يفترض بقاؤهم في الأماكن التي يستحقوها، لأجل صعود الأقلية السياسية والاقتصادية وخدمة مصالحها".

لتحقيق هذه المآرب، ينفرد قطاعان مهمان، هما الإعلام وصناعة العلاقات العامة، في التأثير على رأي عام موال، من خلال تلميع السياسات والتحكم برسائل تدفع الشعب إلى التصويت بطريقة غير عقلانية.

الإعلام المؤثر تديره شركات كبرى، هدفها الربح وخدمة معايير الجهات المعلنة، وليس قيم المجتمع. فالإعلام الأميركي اليوم قادر على حشد النخب السياسية والاقتصادية، وبلورة نقاش عام يخدم وجهات نظر هذه النخب، ويضفي في ذات الوقت مظهر القبول الديمقراطي؛ "فالدعاية تمثل للأنظمة الديمقراطية ما تمثله العصا للأنظمة الاستبدادية".

أسهب تشومسكي في انتقاد سياسة أميركا القائمة على معايير مزدوجة؛ فهي تدعو للديمقراطية والحرية للجميع، رغم أنها تتحالف مع المنظمات والدول غير الديمقراطية. وتولي أهمية ثانوية لطبيعة أي نظام تدعمه حول العالم، بما فيه المنطقة العربية. فالأهم عند الساسة الأميركيين هو السيطرة على العالم لخدمة مصالح النظام الأميركي، بينما يتم تجاهل واقع رعايا هذه الدول لحين قيامهم بتكسير القيود بأنفسهم.

الانتفاضة المفاجئة في تونس، وبعدها مصر، كانتا خير مثال على سرعة تخلّي الإدارة الأميركية عن حلفائها المستبدين، الذين سادوا بقبضة بوليسية وأمنية. ثم دعمت هذه الإدارة أنظمة جديدة تغيّرت في الشكل وليس بالمضمون، طالما أنها تتفق مع أهداف واشنطن الاستراتيجية والاقتصادية.

وهناك العديد من الأمثلة حول ازدواجية أميركا في التعامل مع أنظمة مستبدة، حتى يصبح الوقوف إلى جانبها أمرا متعذرا: نيكولاي تشاوشيسكو (أطيح به في رومانيا شتاء 1989)، والرئيس الفلبيني الأسبق فرديناند ماركوس، والهايتي جان كلود دوفاليه، والكوري الجنوبي شان دي هوان، والأندونيسي سوهارتو، وقبلهم شاه إيران.. والحبل على الجرار.

باختصار، استطاع تشومسكي فتح جراح العديد من الحضور، حتى وإن لم تأت أفكاره بأي جديد.

وضع المعاناة الاقتصادية والسياسية والثقافية التي تعيشها شعوب العالم في سياقها وعلى مسطرة واحدة، وانتقد رغبة السلطات في العمل في الخفاء بدون إعلام يراقبها ويسائلها، في غياب لأبجديات الديمقراطية: حكم الشعب من خلال الشعب لمصلحة الشعب.

لكنه أصر على أن التغيير قادم، لأن ما كان يصلح في الأمس لم يعد صالحا اليوم. فهل يتعظ المسؤولون الأردنيون؟

الغد

أضف تعليقك