الجماعات السلفية الجهادية عابرة الحدود: الأردن في عين العاصفة

الجماعات السلفية الجهادية عابرة الحدود: الأردن في عين العاصفة

يقف الأردن الرسمي اليوم أمام تحدي زحف كتائب السلفية الجهادية المسلحة وعناصر "القاعدة" من الجهات الأربع، في استذكار لعودة مخاطر "الأفغان العرب" قبل ربع قرن، وتصدير الإرهاب من العراق المدمي عقب وقوعه تحت الاحتلال

الخطر يتدحرج من جديد ككرة ثلج، على وقع فوضى سياسية وأمنية تعصف بالإقليم منذ هبوب رياح التغيير العام 2011، مع إعادة ترسيم خريطة التحالفات الإقليمية والدولية، ليتشكّل أخطر تهديد قد يطال الأردن منذ تمدّد "القاعدة" في العراق بعد العام 2003.

على مرمى حجر من قرانا في الشمال، ترتع كتائب "جبهة النصرة" و"الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش). وهي تتمدد بين محافظات سورية والأنبار العراقية المحاذية لنا، وعيونها على المشرق.

وفي اليمن، خليط جماعات متشددة تهدّد السعودية؛ عمقنا الاستراتيجي. وإلى الغرب طوق آخر يتحرك في المغرب، مرورا بالجزائر وتونس وليبيا، قبل أن ينتهي في شبه جزيرة سيناء، المتاخمة للعقبة. فيما الشريط الثالث يتمدد من السودان عبر البوابة المصرية، وصولا إلى سيناء.

وسط هذه التيارات شبه المتشابكة، يبقى الأردن آخر أرضية صلبة تتكسر حولها -حتى الآن- كل محاولات التشبيك بين أطراف ما يسميه الرسميون "الإسلام الراديكالي".

مكافحة تغلغل هذه القوى، وشرور التكفير والإرهاب، وبث الفتن الطائفية بين المسلمين وغيرهم، تتحقق من خلال نسج منظومة إقليمية ودولية متعددة المحاور والمستويات؛ وقائية-استخباراتية دفاعية وعملياتية. فهل يستطيع الأردن -آخر معاقل الاستقرار وسط محيط مضطرب- استخدام ثقل علاقاته الدبلوماسية، ونفوذ جهازه الاستخباراتي، في تحشيد جهود متفرقة لدول المنطقة والغرب، من أجل تشكيل نواة لعمل مؤسسي احترافي يخرج عن نطاق التعاون الكلاسيكي الثنائي أو ثلاثي الأبعاد؟

الجواب: نعم. فللأردن بصمة متميزة في مكافحة الإرهاب، منذ تحولت أفغانستان إلى حاضنة للجيل الأول من تنظيمات التطرف والتكفير باسم الدين، ثم الجيل الثاني الذي تدفق من العراق، والجيل الثالث من الجماعات الإسلامية المسلحة الفاعلة في الثورة السورية هذه الأيام.

فبعد تفجيرات عمان الثلاثية في خريف العام 2005، أطلقت المخابرات العامة ذراع "فرسان الحق" الضاربة، بالتعاون مع وحدة 71 العسكرية النخبوية. ومن بين العمليات النوعية المعلنة داخل الحدود العراقية، اصطياد أحد عناصر تنظيم القاعدة في العراق، زياد الكربولي، في أيار (مايو) 2006. وفي الشهر التالي، وفّرت معطيات استخبارية ساهمت في تصفية زعيم تنظيم القاعدة في العراق؛ الأردني أبو مصعب الزرقاوي. فما أحوجنا إلى مثل هذا التشبيك، خصوصا في حال تشكّل إمارة "داعش" أو "جبهة النصرة" جنوب سورية و/ أو شرق العراق، واحتمالات عودة مئات المسلحين إلى بلدانهم الأصلية في حال استقرار الوضع هناك.

نشط الأردن مبكرا في مواجهة هذا المد المحتمل، بعد أن أدرك حجم الخطر القادم من بوابة سورية التي تحولت إلى دولة فاشلة، ومسرحا لحروب الآخر ولتصفيات سياسية بالوكالة.

حكومة الأردن وأجهزته الأمنية، تحركت خلال الأشهر الستة الماضية، لتنبيه الدول الصديقة والحلفاء الاستراتيجيين، من خلال زيارات غير معلنة، ولقاءات سرية، مع صانعي الاستراتيجيات الأمنية ومنفذيها في مصر، والسعودية، والبحرين، ودولة الإمارات العربية المتحدة. ويقول دبلوماسيون إن الأردن دق ناقوس الخطر أيضا في العواصم الأوروبية وواشنطن. فوزير الداخلية، حسين هزاع المجالي، يجول منذ أشهر في العديد من البلدان لهذا الهدف، برفقة كبار القيادات الأمنية بحسب دبلوماسيين.

بالطبع هناك فرص وراء التحديات.

ثمّة ظروف موضوعية تعمل لمصلحة الأردن الذي يجلس على أحد مقاعد مجلس الأمن غير الدائمة منذ أسابيع، وبما يوفر منصة مهمة للتحرك على المستوى الدولي. والأردن أيضا من أنشط الأعضاء في اجتماعات وزراء الداخلية العرب، الذي سيعقد اجتماعه القادم في مراكش بالمغرب في آذار (مارس) المقبل. وقد يوفر هذا الاجتماع منصة لاتخاذ قرار مصيري، وحشد أعضاء الجامعة العربية بحيث ترى أبعد من أنفها.

على خط مواز، بإمكان الأردن، ودول عربية شريكة في هذا الجهد تتمتع بعلاقات وطيدة مع الغرب، التحرك فورا لبلورة استراتيجية متكاملة، تتضمن آليات للتعامل مع هذا الخطر الداهم، بأهداف آنية ومتوسطة وبعيدة المدى.

للأردن وبقايا ما يسمى "محور الاعتدال العربي" مصلحة في ذلك، حال أوروبا وأميركا وغيرهما. فمثلا، تشير تقديرات إلى انخراط قرابة 500 أردني في جحيم سورية، قتل منهم أكثر من 100 سلفي جهادي. وهناك مئات آخرون مستعدون للذهاب إلى سورية، لولا الصعوبات المالية واللوجستية. ولو كانت الحدود غير منضبطة، لتسلّل العديد منهم، كما هي الحال عبر الحدود العراقية أو من تركيا، حيث تشجع حكومتها ذلك من باب المناكفات بنظام بشار الأسد، والرغبة في بسط النفوذ.

والأردنيون اليوم يشكلون أبرز قيادات "القاعدة" العسكرية والعلمية في سورية، بعد أن شغلوا هذه المواقع في تنظيم القاعدة في العراق. وهناك أيضا قيادات أردنية في "جبهة النصرة"، والحال لا تختلف بشأن "داعش".

كذلك، هناك الآلاف من حملة الجنسيات الأوروبية، غالبيتهم من شمال أفريقيا -متعلمون أو مهمشون- يشكلون اليوم جزءا لا يستهان به من 45,000-50,000 مقاتل مغرّر بهم في سورية. يصلون إليها غالبا عبر الحدود التركية والعراقية، وأحيانا اللبنانية، مدعومين بغطاء سيادي وأمني، أو من خلال تنظيمات وميليشيات وازنة.

أميركا التي عانت الويل من خطر الإرهاب مطلع الألفية -بسبب سياساتها غير العادلة في المنطقة، ودورها في بؤر التوتر التي فرّخت الإرهاب- تتحكم بغالبية التحويلات المصرفية الدولية. ولها رعايا من أصول عربية وآسيوية منخرطون في كتائب المجاهدين. كما لوزارة الداخلية السعودية تجربة مع برنامج "المناصحة" الذي استخدم أيضا امتيازات مالية، وأفضى إلى عديد مراجعات. وفي مصر، هناك أيضا تجارب عديدة؛ بدءا بمراجعات نزلاء الفكر الجهادي المسلح، قبل أن يهرب أعداد منهم من السجون عقب الثورة الأولى التي أطاحت بنظام حسني مبارك. واليوم، تتعامل الحكومة المصرية الجديدة بقوة السلاح والرصاص مع الخطر الجهادي، ولها مصلحة استراتيجية في مكافحة الإرهاب.

ولدى الأردن تجارب أخرى تسجل له؛ توعويا تبدأ بمحاورة سجناء جهاديين، وأمنيا بشقيه الاستباقي والدفاعي.

وزارة الداخلية أطلقت برنامجا لاحتواء الفكر الجهادي، طبق على 27 نزيلا في العام 2007، وعلى 32 نزيلاً في العام 2008. ويتضمّن المشروع دروسا دينية وحوارات مع علماء وأئمة لمحاربة الفكر بالفكر، مع جلسات إرشاد نفسي وتأهيل اجتماعي، بحسب مسؤولين. وجميع نزلاء الفوج الأول ختموا المراجعات وتخلصوا من الفكر المتشدد، بينما سار غالبية المشاركين في دفعة 2008 على ذات الطريق.

اليوم، تفكّر الحكومة في مراجعة المناهج التعليمية، وإطلاق برامج متداخلة، تركز على الشباب والمدارس والجامعات، بخاصة في حواضن اجتماعية للفكر الجهادي، بينها مخيمات ومناطق مهمشة توفر تربة خصبة بسبب الفقر والجهل والحرمان، والشعور بغياب العدالة، وتراجع هيبة الدولة والديمقراطية.

بدأت وزارة الشؤون والمقدسات الإسلامية أخيرا بتشديد رقابتها على الأئمة والوعاظ الذين يعتلون منابر المساجد، ويلقون خطبا عنوانها التشدد والانغلاق والتكفير. بينما تنشط بدايات حملات، تستهدف بسطات كتب ذات طابع تكفيري، حالها حال محال بيع أشرطة تسجيلية مماثلة.

وفي المملكة مركز إقليمي متفوق للتدريب على مكافحة الإرهاب منذ سنوات، استفادت من برامجه دول عديدة.

باستطاعة الأردن الاتكاء على السعودية والإمارات العربية وسلطنة عمان والبحرين والكويت ولبنان ومصر وتونس وغيرها من الدول المتضررة من الجهادية السلفية. وربما تنزع السعودية إلى تضييق الخناق على الأموال التي تجمع من متبرعين وجمعيات خاصة لنصرة الجهاديين في العالم العربي. والأمل أن تراجع قطر وتركيا سياستيهما الرسميتين بتسليح وتمويل جماعات متشددة في سورية، وتسهيل دخول السلاح والمحاربين المغرر بهم، أو الذين تحولوا إلى وقود لدول وأجهزة استخبارات تتصارع لتنفيذ أجنداتها هناك.

صناعة الأفكار المتطرفة وتنفيذها، صارا فكرة سهلة المنال في غمرة الفوضى السياسية التي تعصف بالإقليم، وصراع الأنظمة والأجهزة على المسرح السوري.

لنقر بأن الدول العربية جميعا، بلا استثناء، مهددة بخطر الإرهاب الجهادي المسلح، والفكر التكفيري المناهض للديمقراطية، والتعددية السياسية والدينية، والإسلام المعتدل، وقيم الإنسانية والتسامح.

البديل يكمن في قطع الطريق على تشبيك الجماعات المتشددة وخطرها العابر للحدود، وتحصين الأردن؛ حجر العثرة الوحيد أمام تواصل جماعات شمال أفريقيا مع نظرائها في سائر دول الإقليم!

فهل يعلّق الأردن الجرس خلال اجتماع وزراء الداخلية العرب، مدشناً نقطة انطلاق لحماية المستقبل من خطر الإرهاب والتكفير العابر للحدود؟

الغد

أضف تعليقك