الأردن والأردنيون في عين سفير بريطاني سابق

الأردن والأردنيون في عين سفير بريطاني سابق

صدر أخيرا كتاب يحوي عشرات الرسائل الوداعية المكتومة كان خطّها سفراء بريطانيا قبل عقود في خواتم خدمتهم أو قبيل الانتقال لشاغر آخر ضمن تقليد دبلوماسي عريق في عاصمة الضباب, ذلك التمرين وفرّ لفرسان الدبلوماسية فرصة نادرة للتحدث صراحة عن تجربتهم في الخارج, بما فيها انطباعاتهم الشخصية عن بلد الخدمة, عادات شعبها وطبائع حكامها, درجة فساد الوزراء وحتى مستوى تعاطي الكحول.

البرقيات المثيرة كانت تسمى ب¯ valedictory dispatch أو "برقية التوديع". وكانت تعمّم على رجال وسيدات الحكم وأعوانهم, بدءا بقصر باكينغهام مرورا بمكتب رئيس الوزراء والوزراء وانتهاء بالبنك المركزي. لكن هذا التقليد توقف بعد تسريب فحوى برقية للإعلام البريطاني عام 2006 سخر كاتبها من سياسات "الوايتهول"; مقر وزارة الخارجية.

بعد سنوات, استخدم مراسل هيئة الاذاعة البريطانية قانون حق الوصول إلى المعلومات للاطلاع على مئات من هذه البرقيات خطّت على مدى خمسة عقود. وبالتعاون مع دبلوماسي سابق, أحالها هذا الإعلامي إلى مادة مثيرة لبرنامج إذاعي لقي نجاحا كبيرا قبل أن يضمنها كتابا بعنوان "Parting Shots" أو "طلقات الرحيل".

من بين البرقيات التي استرعت انتباهي لدى تصفحي هذا الكتاب الشيق تلك التي أرسلها السفير الأسبق في عمان هيو بلفور- بول في 12 أيلول 1975 إلى وزير خارجيته جيمس كالاهان ومجموعة القراء إياهم بعنوان "مجموعة فريدة من المتضادات... مترابطة بطريقة متناقضة".

يقول بلفور-بول: "بوصولي إلى هذه الإمارة »هكذا وردت« غريبة الأطوار, لاحظت كيف يقع الكثير من الرجال الصادقين تحت نوع خاص من سحر الهاشميين (والعديد منهم لا يستطيعون الإفلات منه أبدا). انطباعاتي الشخصية الأولية التي شرعت في تدوينها عام 1972 قد تكون أوحت بأنني كنت تواقا إلى سحر مماثل, لكن تجربة ثلاث سنوات وفرت الترياق. مررت بلحظات طغت خلالها جوانب من الحياة, في ظل الهاشميين, كانت أقل قبولا, لكن مع مرور الزمن سادت أعراض معروفة من دون شك, حيث يقل التأثير السيئ وتؤخذ الأمور الايجابية كمسلمات منسية. في هذه البرقية الوداعية, سأحاول أن أقيم المملكة الهاشمية, شعبها وسياساتها بموضوعية."

"للمراقبين الغربيين, يظهر الأردنيون وحكامهم, حال نظرائهم العرب, كمزيج استثنائي من المتناقضات. في لحظة تراهم صادقين منفتحين على نحو يشرح القلب, وفي لحظة يتحولون لمخادعين ومضللين, هم مضيافون وكرماء بطريقة خالية من العيوب, خاصة مع الأجانب, لكنك تراهم أيضا غير مكترثين, وعلى نحو غريب, للإساءات المجتمعية ولعذاب المجموعات. يقدرون الصدق لكنهم يتحملون الفساد. يرحبون بسماع أي آراء خارجية لكنهم لا يكترثون لها في العادة, فكرهم حاد لكنه غير مكترث. وخيالهم كفوار منفعل لكنه يبقى غير خلاّق. هم جهابذة جدال جيد لكنهم يقعون شهداء لبلاغتهم. مرتبطون ببلدهم بشكل حقيقي لكنهم لا يعرفون عنه شيئا. ينتهكون حرمة القليل الذي يكتشفونه في بلدهم. يتحدثون بفخر عن تراثهم وفنونهم, لكنهم يملأون بيوتهم بمستوردات فنية من أصناف رديئة. كثير من الأغنياء يعشقون مذهب المتعة واللذة غير المنتج بينما الكثير من الفقراء يتمسكون بفظاظتهم (بخاصة من بدأ يلبس ثياب السلطة) وبذلك يتساوون في كلتا الحالتين بفضائل تخلت عنها الحضارات الغربية".

"من غير الضروري أن يكون المرء أمضى 30 عاما مع العرب حتى تسترعي انتباهه المتناقضات والانقسامات الفرعية في تركيبتهم والتي تثير الدهشة. (بالتأكيد العرب أيضا مصابون بالدهشة حيال التناقضات الموجودة عندنا). مواقفهم حيال بريطانيا تتأرجح: بين الاعتزاز والقرف ومن الكراهية إلى المحبة. لا أجزم أنني امتلك فهما خاصا للشخصية العربية: في الأيام الجيدة تبدو واضحة كالشمس وفي الأيام السيئة تكون مبهمة وغير شفافة. لكن, وبنظرة موضوعية, استطيع أن اجزم بأن رعايا الملك حسين بالمقارنة مع غيرهم ممن عرفتهم في سائر الدول العربية يمتلكون من الصفات المقبولة أكثر منها غير المقبولة".

"لكن ماذا عن حكامهم; الملك وعدد من الذين يساعدونه على بلورة السياسيات? بالتأكيد, لديهم أخطاؤهم - فهم يستعرضون أفكارا مضخمة حول أهميتهم, ويعتمدون مقاربة شهمة في طريقة تعاملهم مع الأولويات المالية ومع الممتلكات". "ولديهم اعتقاد خاطئ بأن جيشا مواليا يغني عن مواطنين مرتاحين".

"يتمتعون أيضا بفضائل وشيم كثيرة. عشت أياما حين كانت عزيمة الهاشميين وقدرتهم على استعادة الحيوية بمرونة كبيرة عقب بلاء عصيب تمدني بدفعة معنويات كبيرة, كما مرت علي أيام عندما كان عنادهم يتركني أصك أسناني. ربما يجسد خال الملك, الشريف ناصر, أفضل مثل للتعبير عن خليط من المضادات: في آن سمعته السلبية كمغامر (في التجارة أو السياسة) وكرجل مكارم. يعد مشروعه الزراعي في صحراء الحلابات الحجرية من أكثر المشاريع الخلاقة في المنطقة, لكنه مجرد من المبادئ. المكتبة الخاصة بالأمير محمد تعطي, وإن بطريقة اقل عدالة, صورة عن اهتمامات الهاشميين: 100 مجلد عن الشرق الاوسط, 50 مجلد عن الشطرنج, 50 مجلدا عن ثقافة الأسلحة النارية و50 مجلدا عن الكاراتيه وإصدار واحد حول "المظهر والهندام الجيد للرجل", وكتاب آخر عن "كلبي وكلبك".

ولي العهد (وقتها الأمير الحسن) يمثل نهجا ثالثا: يجمع بين زهو المثقف وفي الوقت عينه يحمل همّا أخلاقيا. ولعه في استخدام كلمات متعددة المقاطع وشغفه بالهبوط بالباراشوت من الأمور التي تؤثر على شعبيته.

اما زيد الرفاعي, الذي كان رئيسا للوزراء معظم مدة خدمتي في الأردن, فيتميز بسرعة حركته وذكائه. خلال حفلة وداع أقامها على شرفي وشرف زوجتي قبيل مغادرتنا, مرر إليه كتاب عن الأبراج. تصفحه باحثا عن برجه وقرأ ما يلي: مقامر, ذواق طعام, ناقد..., , مخلص, ويد يمنى".

أغلق الرفاعي الكتاب وأفرط في الضحك لإدراكه مدى انطباق هذا الكلام عليه.

لكن, ومع مغادرتي لجوار فلسطين, أجد لزاما علي أن انهي برقية وداعي بجرعة معتدلة من دواء سري التركيب لعلاج أمر مستعص. سترتاحون عندما تعرفون أنه لا يوجد لدي ما أقدمه هنا. اقتراحي البسيط والقديم هو التالي: لدى التعامل مع قضية فلسطين, يستطيع العالم أن يقوم بعمل شيء جيد عبر تشجيع المزيد من الدقة في استخدامات اللغة, فالعرب من أسوأ الناس في التطبل اللغوي, غير مكترثين بتعريف مصطلحاتهم. الضبابية بالطبع لها استعمالاتها في مجال العمل الدبلوماسي كما في مجالات أخرى, لكن لو كان هناك معان محددة للوضع العربي الإسرائيلي يبدأ من تعريف متفق عليه حول من هو "الفلسطيني" الذي يعد لب القضية, عندها قد يكون هناك أمل للتعاطي مع ذلك الأمر بطريقة أكثر فعالية."

أردت أن أشارك القراء الأعزاء هذه البرقية على أمل تعميم الاستفادة من الانطباعات والمعلومات الصحيحة وربما غير الصحيحة التي أوردها السفير بلفور-بول عن الأردن قبل 36 عاما وحسب ترجمتي (غير المعتمدة).

بالطبع تغير الكثير منذ ذلك الوقت. غيب المرض الملك حسين بعد نصف قرن من العطاء في بناء الأردن ومحاولة حل معضلة السلام. بعض الشخصيات التي أتى على ذكرها اختفت عن المشهد السياسي العام, إما بسبب الموت أو التقاعد. وتغيّرت ولاية العرش مرتين, لكن الكثير من المفردات المتناقضة في سلوكنا وطباعنا وطريقة تعاملنا مع بعضنا بعضا ومع الآخر لم تتغير كثيرا, بحسب قناعتي. وما تزال القضية الفلسطينية تبحث عن حل عادل وتدفع ثمن عدم وضوح اللغة والنوايا منذ القرار الأممي 242 (الفرنسية والانجليزية) وبالتحديد فقرة الانسحاب من "الأراضي المحتلة" أو "أراض محتلة".

للأسف توقفت برقيات التوديع البريطانية بما حملته من انطباعات شخصية وأحيانا حقائق دوّنها سفراء بريطانيا حول العالم. نأمل أن يفعّل صحافي بريطاني آخر حق الحصول على المعلومات لوضعنا كعرب بصورة ما كتبه سفراء بريطانيا عن مراحل مفصلية في تاريخ الأمّة. فهناك ألغاز في سلسلة الانقلابات في دمشق, القاهرة وبغداد ثم الحرب العراقية-الإيرانية, العدوان الإسرائيلي على لبنان, اجتياح العراق للكويت, وإنطلاق قطار التفاوض السلمي من مدريد, وصولا إلى دحرجة صدّام حسين عن مسرح العالم, وما تلاه من فتح الطريق أمام لاعبين جدد: إيران وتركيا للتنافس مع أمريكا وإسرائيل على تقطيع كعكة الشرق الاوسط الجديد.

ليت كان بإمكاننا الوصول إلى الأرشيف الرسمي الأردني لمعرفة حقيقة تاريخنا كما دوّنه من جلس في السلطة بدلا من قراءة انطباعات السفراء الأجانب عن طبائعنا وزوايانا المظلمة.

العرب اليوم

أضف تعليقك