إدارة الوقت لتحقيق الإصلاح

إدارة الوقت لتحقيق الإصلاح

يستغرب الزوار الرسميون، حال ساسة وحزبيين ونشطاء مجتمع مدني، من طغيان روح الشماتة تجاه الإخوان المسلمين في مصر بعد صفعة الانقلاب على الرئيس محمد مرسي، وذلك بدلا من استغلال الفرصة والتحرك من موقع قوة صوب تشجيع التيار الإسلامي في الأردن على العودة للعبة السياسية.

كما يشعر هؤلاء بالدهشة من حال الإنكار المسيطرة على إخوان الأردن وذراعهم السياسية "جبهة العمل الإسلامي"، باعتبارهم القوة السياسية الأكثر تنظيما، وحلفاء النظام لعقود قبل أن تتعارض الأجندات منتصف تسعينيات القرن الماضي.

فجماعة الإخوان المسلمين هنا لم تستفق من "لكمة" الجيش لحلفائها في مصر، وتواصل التصعيد ضد الحكومة، متجاهلة كل خطوة رسمية، بل ووصل الأمر إلى التطاول على رأس النظام.

المؤسف أن الطرفين يتشاركان في صفة واحدة: الإصرار على شيطنة الآخر وإقصائه عبر إدعاء "تمثيل الأغلبية الصامتة"، واللعب في الوقت الضائع إلى حين تغير الظروف والمعطيات الداخلية والخارجية، بدلا من إدارة الوقت للانتقال إلى التعددية والديمقراطية ودولة القانون والمؤسسات.

لكن الطرفين ينسيان، أو يتناسيان، أن قواعد اللعبة السياسية الحالية والانغماس في الإقصاء، قد دخلا مزبلة التاريخ، ولن يفرزا إلا المزيد من التأزيم والتقسيم.

فبناء المستقبل يتطلب مشاركة مكونات الدولة الرسمية والشعبية كافة، لضمان الحد الأدنى من التوافق المجتمعي.كما أنهما يتناسيان أن الفرصة سانحة لتجديد تفاهمات استراتيجية ثنائية -بعد انقلاب المعادلة قبل أكثر من 10 سنوات- قائمة على إصلاحات تؤجل المسّ بسلطات الملك الدستورية، مقابل انتخابات نيابية حرّة على أسس حزبية وأصوات متعددة.

ومن شأن ذلك إعادة "الجماعة" إلى حلقات المعارضة السياسية الرسمية من داخل المؤسسات، بدلا من البقاء في الشارع.

فالتحديات الداخلية؛ سواء الاقتصادية والسياسية أو الاجتماعية والثقافية، لم تتغير، ولن تتغير بدون رسم خطّة طريق واضحة، وبدون تطوير العقد الاجتماعي البالي.

رسميا، ما تزال عملية الإصلاح السياسي في طور الشكليات، بعيدا عن معادلات متقدمة تضمن تقاسم السلطة وإعادة توزيعها بمشاركة القاعدة الأوسع من الشعب، وتشكيل حكومات برلمانية حقيقية لا صورية.

وفي ضوء ذلك، سيظل الأردن يدفع وحده ثمن مسرحية "وهم الإصلاح". فمجلس نوابنا ضعيف بفعل قانون انتخاب غير عادل لا يمثّل الناس، عماده "الصوت الواحد". كما أن المجلس غير قادر على الصمود حتى نهاية ولايته بعد أربع سنوات.

مواصلة تعطيل الإصلاحات الحقّة ستبقي المجلس ضعيفا، يعتمد على السلطة التنفيذية والأجهزة الأمنية، بدلا من مراقبة أدائهما بموجب الصلاحيات الممنوحة له في الدستور.

والحراك الشعبي والسياسي لن يخمد إلى حين تحقيق مطالبه بإصلاحات سياسية واقتصادية، ومحاكمة الفساد والمفسدين.

يتطلع صنّاع القرار إلى ترسيم حدود الحكومة البرلمانية المقبلة التي يؤمل أن تصمد لأربع سنوات، ما لم تنشأ ظروف جديدة تدفع باتجاه حل مبكر لمجلس النواب في سياق تعديل قانون الانتخاب، وتشكيل نواة لتيارات حزبية يسارية، وسطية ويمينية.

استمرار هذه التحديات يشي بأن الحراك لم ولن ينتهي. ويبدو أنه يمر حاليا في مرحلة سبات لحين التوصل إلى معادلة تسمح له بترجمة مشاعر الإحباط والقلق إلى عمل سياسي منظم على الأرض.

وهناك مخاوف من تعميق الاحتقان في الشارع مع استمرار خطوات رفع الأسعار نتيجة إلغاء الدعم، لاسيما في قطاع الكهرباء.

يجب أن ندرك أن الأردن لن يتقدم بدون توافق على قضايا داخلية مصيرية، تمكنّه من طي صفحة الماضي مع كل هواجسها وتحدياتها وعثراتها؛ وغالبيتها نتاج غياب استراتيجية ورؤى لدى السلطة والمعارضة، بما فيها القوى الإسلامية.

وقد يكون من المفيد تشكيل لجنة ملكية تمثّل "تعددية" المجتمع، وألوانه السياسية والثقافية والاجتماعية، على أن تجتمع في خلوة متواصلة لتقرر شكل الأردن الجديد الذي تريده غالبية الشعب، وترصف الطريق الأقصر إلى المحطة النهائية.

إذ لدينا ملفات مقلقة بحاجة إلى حسم لكي نخرج من الحلقة المفرغة، أولها، العلاقة بين المكونين الرئيسيين للمجتمع؛ ذوي الأصول الشرق أردنية ومن هم من أصول فلسطينية، وذلك بطريقة تخاطب مخاوف الطرفين، وتحقّق أحلامهما بمستقبل أكثر أمنا واستقرارا، وتسمح بتحديد الهوية والانتماء واستيعاب جميع المواطنين ممن يحملون أرقاما وطنية، بغض النظر عن الأصل والفصل والعرق والجنس والدين.

ويجب أن ندرك أن مواصلة سياسة الدولة الريعية المبنية على كسب الولاء مقابل وظائف غير منتجة وامتيازات ومكارم، هي سياسة لن تدوم، ولن تضمن الأمن والاستقرار، لأن الأردن ليس دولة نفطية بموارد غنية.

والمطلوب هو الانتقال إلى دولة الحداثة، وعمادها المساواة في الحقوق والواجبات بدون منّة من أحد على الآخر، إلا بمقدار ما ينتج ويدفع من ضرائب ويلتزم بالقانون، مقابل مسؤول خاضع لمساءلة البرلمان ومراقبة المجتمع المدني والإعلام.كم قضية فساد "لُفلفت" أو جُمدت، وكم من مسؤول عيّن بدون وجه حق على قاعدة تبادل المنفعة وضمان "ثقة" النيابي، على حساب الحق والقانون ومصلحة الوطن.

وحدها المواطنة الإيجابية؛ المبنية على المساواة والولاء والانتماء، هي الطريق الأقصر لحل أزمة الهوية السياسية، وإنهاء الخلاف الأزلي بين الجغرافيا والديموغرافيا، بانتظار حل القضية الفلسطينية.

المطلوب أيضا فك الاشتباك، وأحيانا العداء، بين القطاعين الخاص والعام، وتحديد هوية وشكل النظام الاقتصادي المطلوب، مع ترشيد القطاع العام وزيادة فعاليته، بدلا من تخصيص غالبية الإنفاق لرواتب الموظفين وتقاعدهم.

لنفكر في المستقبل في دولة مجتمع مدني، بدلا من التغني بأمجاد الماضي، والتقوقع على الذات، ورفض الحداثة، وكراهية غالبية من لا يفكر أو يأكل أو يلبس مثلنا.بدون تقبل التعددية بمختلف أشكالها، وبدون حل إشكالية الدولة التي نريد، لن نستطيع الاتفاق على تعديل قانون الانتخاب، وحدود الحكومة البرلمانية، وغيرها من القضايا الملحة.

وعلينا الاتفاق على نقطة تلاقٍ: الدستور كأب لجميع القوانين، وعلى شرعية النظام الهاشمي كجامع للأردنيين كافة، ثم لنختلف حول أي شيء آخر.

لنسمِ الأشياء بأسمائها. ولا مانع من تعديل الميثاق الوطني وطرحه على استفتاء عام ليكسب الشرعية، ويحصّن الدولة أمام جبال من التحديات، الداخلية والخارجية، تطل برأسها كلما انفتحت سيرة الإصلاح السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، والتعليمي، المطلوب.

فهل يستغل صاحب القرار الضربة التي تلقاها الإسلام السياسي في مصر وتونس والمغرب، وغيرها من الدول، بعد هبوب رياح التغيير، ويراهن على وعي مواطنيه، وقبول الغالبية بالمظلة الهاشمية، وخشيتهم من التغيير المفاجئ تحت ضغط الشارع، لكي لا يذوقوا مرارة العنف الدموي في دول الجوار؟

هل ستتوقف "الدولة العميقة" عن معالجة هذه التناقضات التي استعملت لعقود ضمن سياسة فرق تسد، واللعب على المخاوف والغرائز للإبقاء على سياسة الأمر الواقع.

ندعو الله لإنهاض المسؤولين من سباتهم العميق، وإخراجهم من حال الإنكار إلى الإقرار بوجود متلازمات من العقد المتراكمة، والتي لا بد من فكّها لكي نتقدم نحو المستقبل المنشود على نحو تدريجي وآمن.

الغد

أضف تعليقك