10 الاف بدوي في اسرائيل يواجهون "الابادة" بالغازات السامة

عرب (48) - روزين عودة - لصالح مشروع مضمون جديد للصحفيين

عندما وقع الانفجار المشؤوم في منطقة رمات حوفاف الصناعية في صحراء النقب جنوبي اسرائيل عام 2007، خيمت غمامة قاتلة على بلدة وادي النعم البدوية التي كان قدرها ان تجاور مرغمة اخطر تجمع للصناعات الكيماوية في الدولة العبرية.

ويتذكر لباد ابو عفاش رئيس اللجنة المحلية للبلدة هذه الحادثة، ويقول انه أُسقط يومها في يد الاهالي المجردين من اية وسائل للحماية من مثل هذه الكوارث، ولم يجدوا سبيلا للنجاة سوى الفرار من بلدتهم، سالكين اتجاها معاكسا للريح كما علمتهم تجاربهم السابقة.

الانفجار وقع انذاك في مصنع مختشيم للاسمدة، واطلق في سماء المنطقة ما وصفه تقرير لمنظمة "اطباء لحقوق الانسان- اسرائيل" بانه "غيمة من مواد الابادة" امتدت فوق مساحة خمسة كيلومترات مربعة.

وهذا الحادث لم يكن الاول في تاريخ المنطقة الصناعية التي انشئت عام 1977، فقد سبقه عدة حوادث كانت اقل خطورة، لكنها تسببت في احيان كثيرة في اغلاق المنطقة التي باتت تضم حاليا 19 مصنعا كيماويا، فضلا عن المنشأة الرئيسية للتخلص من النفايات السامة في اسرائيل.

وقد حذرت خبيرة اسرائيلية عملت سابقا في مفاعل تشيرنوبيل، من ان الوضع في منطقة رمات حوفاف الصناعية التي تبعد 12 كم الى الجنوب من  مدينة بئر السبع، ينذر بكارثة بيئية مماثلة في ضخامتها لتلك التي نجمت عن التسرب النووي في المفاعل الاوكراني عام 1986.

وبحسب الخبيرة في علم الاوبئة باتيا ساروف التي تعمل حاليا في جامعة بن غوريون فان "تركيز هذا العدد الكبير من المصانع في مكان واحد يعني انه اذا حصل انفجار كبير، فانه ببساطة، لن يكون سكان النقب وحدهم من سيعاني من التلوث الخطير الذي يعادل ما سيحدثه انفجار نووي، بل وايضا العديد من الجيران في الشرق الاوسط".

والمسالة الان كما يقول خبراء ليست "هل؟"، وانما "متى" ستقع هذه الكارثة!

نحن نموت

داخل بلدة وادي النعم، التي يقطنها نحو عشرة الاف نسمة نصفهم تقريبا من الاطفال، راح رجل بدوي يردد بسخط ويده تشير الى اعمدة الدخان المتصاعدة من منطقة رمات حوفاف الصناعية التي لا تبعد سوى 500 متر عن البلدة: "اين المنظمات الحقوقية؟ اين الدول التي تتغنى بحقوق الإنسان؟ نحن نموت نموت".

وكما اكدت دراسة لوزارة الصحة الاسرائيلية عام 2008، فقد جرى تسجيل زيادة كبيرة في امراض الجهاز التنفسي، وكذلك في معدل الاصابات بالسرطان بين سكان وادي النعم والتجمعات المحيطة بالمنطقة الصناعية.

وابدت الدراسة قلقا من الاضرار بعيدة المدى للتعرض المستمر للمواد المسرطنة والسامة التي تطلقها المنطقة الصناعية الى الهواء والمياه الجوفية.

وكانت دراسة سابقة للوزارة اجريت عام 2004، قد اظهرت ان معدل الوفيات والاصابة بالسرطان في المنطقة تزيد بنسبة 65 بالمئة عن المعدل العام في اسرائيل، فضلا عن المعدلات المرتفعة في تشوهات  المواليد وحالات الاجهاض.

كما اظهر تقرير أعدته شركة هولندية لصالح وزارة جودة البيئة، أن سكان المنطقة المجاورة معرضون في 95% من أيام السنة لمواد كيماوية مسرطنة منبعثة من المنطقة الصناعية في رمات حوفاف.

ومن جانبهم، يؤكد السكان في وادي النعم ان هناك انتشارا وبائيا للامراض في اوساطهم، خصوصا السرطان وامراض والجهاز التنفسي.

لا بل انك تجد عائلات باكملها مصابة بامراض تعزى الى الملوثات الناجمة عن مصانع رمات حوفاف.

ويحدثنا أحد سكان البلدة الذي رفض نشر اسمه، عن عائلته التي قال ان معظم أفرادها مصابون بامراض متنوعة.

يقول الرجل الذي بدت علامات الوهن على جسده "معظم أفراد عائلتي يعانون امراضا مزمنة كالربو والأمراض الجلدية النادرة والتي لم يتم تشخصيها حتى الآن".
ويضيف "وضع عائلتي الصحي لا يختلف كثيراً عن الأوضاع الصحية لدى عائلات أخرى، فكلنا في وادي النعم نعاني وبشدة من ألامراض".

وباسى يقول الرجل "اننا نعيش على الأدوية. ونحن بحاجة لبيئة صحية بعيدة عن السموم والتلوث. لكننا نحمد الله على كل شيء".

وحتى ما قبل عام 2005، كان الاهالي يضطرون الى السفر الى بئر السبع او شقيب السلام القريبة منها لتلقي العلاج في ظل عدم وجود اية مرافق صحية في بلدتهم.

وقد اضطرت الحكومة وبعد ضغوط من الهيئات الحقوقية الى افتتاح عيادة صحية متواضعة في ذلك العام، لكنها جعلت موقعها على اطراف البلدة، من اجل ابعادها قدر الامكان عن المنطقة الصناعية.

ولا يوجد في القرية سوى مركز واحد لرعاية الامومة والطفولة، وحتى هذا المركز لم يكن يعمل سوى يومين في الاسبوع، وفي بعض الاحيان كان يتم اغلاقه بذريعة النقص في الأطباء والممرضين.

غير معترف بها

وبالاضافة الى المنطقة الصناعية، فان وادي النعم محاطة بمصنع ذخيرة ومنطقة تدريبات عسكرية تابعين للجيش الاسرائيلي، ومنشأة ضخمة لتخزين النفط، وشركة كهرباء اسرائيل، والخط الوطني الناقل للمياه. وطبعا فان مفاعل ديمونة النووي ليس ببعيد عن المنطقة.

ورغم ان السكان يعيشون تحت ابراج الضغط الكهربائي العالي، الا ان بيوتهم ليس فيها كهرباء. وهم يعيشون بجوار خط ناقل المياه، لكن لا ماء في بيوتهم.كما انهم يفتقرون الى الطرق والصرف الصحي ومنشآت التعليم والخدمات الصحية.

وكل هذا لان البلدة "غير معترف بها" من قبل اسرائيل، رغم حقيقة ان الدولة العبرية هي من قام باجبار الاهالي، وجلهم من عشائر العزازمة، على الانتقال للعيش فيها بعدما اقتلعهم من ارضهم التاريخية.

ويوجد في النقب حاليا 45 بلدة وقرية غير معترف بها يسكنها نحو 84 الف نسمة، وتعد وادي النعم اكبرها.

وقد نشأت قضية القرى غير المعترف بها نتيجة لسن قانون التنظيم والبناء (1965) الذي لم يشمل القرى في الخرائط الهيكلية وجعلها مرة واحدة غير قانونية.

غير أن الأغلبية الساحقة لهذه القرى كانت قائمة قبل عام 1948 والجزء الآخر نشأ كنتيجة لنقل السكان بالإكراه الى منطقة "السياج" الواقعة شمال شرق صحراء النقب، من قبل قوات الحكم العسكري في بداية الخمسينيات من القرن الماضي.

وهدفت اسرائيل من هذه الاجراءات الى تركيز البدو في مساحة مقلصة ليعيشوا وفق نمط الحياة الذي حددته لهم دون الأخذ بالاعتبار نمط حياتهم .

وبعد نحو عشرين عاما من نقل وادي النعم الى مكانها الحالي، اقيمت منطقة رمات حوفاف الصناعية بجوارها. وعند انشائها، تقرر أن تكون هناك دائرة أمان حولها بمحيط خمسة كيلومترات، لكن القرار تجاهل حقيقة أن هناك سكانا يعيشون ضمن هذه الدائرة.

نريد الرحيل

اهالي وادي النعم، وخلافا لبقية القرى والبلدات غير المعترف بها، يؤكدون استعدادهم للرحيل، ولكن الى مكان يناسب نمط حياتهم حتى يمكنهم الاستمرار.

وهذه الحقيقة يؤكدها لباد ابو عفاش رئيس اللجنة المحلية في وادي النعم الذي قال "وصلنا لمرحلة نعلن فيها أننا على استعداد كامل للرحيل، وهذا الشيء جداً نادر، فمَن اليوم يهون عليه الرحيل عن أرضه؟!"،

واضاف أبو عفاش ان "الوضع سيء جداً وهو يزداد سوءا، وأي انفجار لا سمح الله أو أي خلل في المصانع سيضع حياة المواطنين في خطر داهم"،

واشار الى ان "هناك مفاوضات حول نقل البلدة إلى مكان آخر"، لكنه اكد "أننا لن نرحل من قريتنا من غير شروطنا".

ومن جانبه ايضا يؤكد ابراهيم أبو عفاش عضو اللجنة المحلية للبلدة انهم لن يقبلوا بالرحيل سوى الى موقع يناسب نمط عيشهم.

ويقول ابراهيم ابو عفاش "نحن مستعدون للرحيل، علماً أننا القرية الوحيدة المستعدة لذلك، وقد اعلنا هذا الموقف منذ عام 1988، لكننا وبالطبع لن نرحل إذ لم يوافقوا على شروطنا، فشروطنا تنص على أن يتم نقلنا لمنطقة زراعية تلبي متطلباتنا لنستطيع العيش فيها".

ويضيف "منذ عام 1988  نشارك في المحادثات والمفاوضات ولا نتلقى غير الوعود الكاذبة..نحن لا نطلب السماء ولا النجوم، كل ما نطلبه هو قرية زراعية تتأقلم مع متطلبات حياتنا البسيطة".

وكانت اللجنة اللوائية للتخطيط والبناء في اللواء الجنوبي قد تبنت عام 2002خطة لاخلاء سكان وادي النعم وتجميعهم في حي جنوبي بلدة شقيب السلام التي تبعد ستة كيلومترات عن مدينة بئر السبع، وذلك في اطار خطة لتوسيع البلدة.

لكن الاعتراضات من قبل السكان والمنظمات الحقوقية دفعت اللجنة الى التخلي عن هذه الخطة عام 2004.

ويقول ابراهيم ابو عفاش معلقا على الخطة التي كانت ترمي الى ترحيلهم الى شقيب السلام ان "حوالي 50% أو 60% من الأهالي يعيشون من وراء تربية المواشي فأين سنضع مواشينا ودوابنا في شقيب السلام، في الطابق الثاني أو الثالث؟!".

ومنذ الغاء مخطط الترحيل الى شقيب السلام، تجري مفاوضات مضنية بين السلطات والاهالي من اجل ايجاد مكان بديل يراعي نمط حياتهم ومصادر رزقهم.

تزييف وحجب

ومن جانبه، ضم العضو العربي في الكنيست جمال زحالقة صوته الى اهالي وادي النعم في ما اعتبره مطالب عادلة لهم..

واكد زحالقة دعمه "لمطالب أهالي وادي النعم بنقلهم إلى مكان آخر يفي بشروطهم العادلة بكل ما يتعلق بالأرض والمسكن، وعدم استغلال ضائقة الأهالي لفرض شروط مجحفة عليهم، وبالأساس أن يكون الحل بالاتفاق وأن لا يفرض من الدولة من طرف واحد".

واضاف "أما فيما يتعلق بسكان المنطقة فإن المطلب الفوري هو توفير الخدمات الصحية الملائمة وإجراء مسح شامل للأضرار الصحية، ودعم مطلبهم بتلقي تعويضات من مصانع ومرافق سببت لهم أضراراً صحية بالغة".

واشار زحالقة الى وجود مطالبات قضائية من الاهالي "بتعويضات تصل إلى حوالي مليار شيكل (296 مليون دولار تقريبا)".

كما دعا زحالقة الى "إخضاع منطقة رمات حوفاف لرقابة صحية وبيئية صارمة، والتعامل بشفافية مع كل ما يتعلق بالأضرار البيئية، واتخاذ كل التدابير اللازمة لتقليص هذه الأضرار بما في ذلك إغلاق مصانع ومرافق لا تفي بالمعايير المتعلقة بالنسب المسموح فيها لبث غازات سامة في الهواء،

ولفت النائب العربي في الكنيست الى ما وصفه بمحاولات حجب الحقائق من قبل الحكومة في ما يتعلق بمخاطر منطقة رمات حوفات الصناعية على وادي النعم.

وقال "خلال عملي البرلماني طرحت قضية أضرار التلوث البيئي على سكان المنطقة، واستندت إلى عدة تقارير بادرت إليها وزارات الصحية والبيئة والصناعة والتجارة، ولكنها غالباً ما كانت تحاول منع نشر تفاصيل الأبحاث الخاصة بالمنطقة لأنها لا تتوافق والسياسة الحكومية الرسمية بتطوير رمات حوفاف وغض الطرف عن الأضرار البيئية".

وعلى ما يبدو، فان محاولات الحكومة حجب المعلومات تتلاقى مع جهود ادارة المنطقة الصناعية لتبرئة نفسها مما ينسب اليها من اتهامات بتلويث البيئة وتهديد حياة السكان.

فعلى سبيل المثال، قامت ادارة المنطقة الصناعية عام 2004 باقتطاع فقرات من نتائج مسح طبي رسمي، ونشرتها في الصحف بحيث ظهر وكان المصانع بريئة من كل ما نسب اليها.

وقد اثار ذلك غضب الطبيبة اللوائية في منطقة جنوب اسرائيل انذاك ايلانا بلمكر التي اتهمت الادارة بتزييف الحقائق "ونشر معلومات تميل لإبراز أهداف معينة تتلاءم ومصلحة المصانع، وإخفاء معلومات أخرى لا تلائمها".

محاولات التعمية والتضليل الرسمي لم تتوقف الى الان، بدليل ان وزارة الصحة لم تتردد في نفي وجود اصابات بالسرطان في وادي النعم فوق المعدل العام المسجل في اسرائيل، رغم ان مسوحات الوزارة نفسها اظهرت عكس ذلك.

فقد قالت ناطقة بلسان وزارة الصحة في رد مقتضب جدا على اسئلتنا حول الاوضاع الصحية لاهالي وادي النعم وخصوصا الاصابات بالسرطان "وزارة الصحة تتابع حالات السرطان في الدولة، ولا علم لدينا عن إصابات سرطان أعلى من المعدل في المنطقة المذكورة".

أضف تعليقك