عمال مصانع الخليل.. مقامرون ضد الإصابة من أجل لقمة العيش

الخليل - ثائر فقوسة - أُعد هذا التقرير لصالح مشروع مضمون جديد للصحفيين

أن يقع لعامل حادث, وهو يعمل في كثير من المنشآت الصناعية في مدينة الخليل, فتتهشم ساقه, أو تكسر, أو تبتر ذراعه, فإن ذلك يعني أولا, وقبل كل شيء أنه مطرود من العمل.

بالنسبة لآلاف العمال في مدينة الخليل, المسألة ببساطة حالة قمار على حياتهم أولا, ودخل الأسرة ثانيا. ولحسن الحظ, فإن الكثيرين محظوظون, ولكن المئات من العمال الذين تعرضوا للإصابات ليسوا كذلك.

بسام يوسف ادعيس و أيمن كرامه و سعيد درويش من الفئة غير المحظوظة بين عمال مصانع مدينة الخليل. هم والقصة التي ترويها أجسادهم مجرد شواهد لضحايا الصناعة الخليلية, في قائمة لا تجد لحبرها نفادا.

تعتبر الخليل من أهم المدن الفلسطينية صناعيا, حيث تضم أكثر من 1000 منشأة ومصنع, يعمل فيها آلاف العمال. ورغم مساهمة القطاع الصناعي بفاعلية كبيرة في الاقتصاد الوطني, على جميع الصعد, ومنها تخفيض مستويات البطالة المنتشرة بين صفوف الشباب, إلا أنه قطاع مثقل بالتعب, يكاد يقذف بشكل منظم عشرات العمال المعاقين اعاقات دائمة او مؤقتة بين صفوف المجتمع.

بالنسبة الى العامل الخليلي, فإن الإصابة لا تعني تصنيفه تحت قائمة المعاقين حركيا فقط, وهي لا تعني كذلك ألماً لا يكف عن زيارة أجساد متعبة, لا ضمانة لها بحياة كريمة, ولا طبابة, بل هي أيضا, بطالة تقذفه وأسرته إلى صفوف الفقراء المحتاجين حتى للقمة الخبز.

في عام 2010 سجل مكتب العمل في مدينة الخليل أكثر من 500 إصابة مختلفة, تراوحت بين الاعاقة الدائمة والمؤقتة, إضافة الى حوادث أدت إلى الموت.

ولكن العامل المصاب بسام ادعيس, الذي كان يعمل في منشار حجر في الخليل, وأُصيب خلال عمله, يرفض إطلاق اسم موت على عامل أنهت حياته حادثة ما خلال عمله.

يقول ل¯ مضمون جديد وهو مشروع صحافي عربي يركز على القضايا الصحافية البيئة: هي حوادث قتل عن سابق إصرار, فعندما لا يوفر رب العمل ظروفا آمنة لعماله, فهذا يعني أنه يحوّل مصنعه لساحة جريمة مفترضة, حاضرة فيها أداة القتل أو سلاح الجريمة, وفي حادث عرضي سيقع لاحقا ستكون عناصر عملية القتل مكتملة. أليس هذا قتلا? يسأل ادعيس.

عندما لاحظ العامل الخليلي وجود مستوى مرتفع من الخطر في حبل تحميل الحجارة الذي بات مهترئا, خلال عمله في المحجر, طلب من صاحب العمل استبداله.

يقول: أخبرته قبل لحظات من إصابتي أن حبل تحميل الحجارة بال وبحاجة للتغيير. ولكن من أجل توفير بعض المال رفض إشارته هذه, طالبا من العمال مواصلة أعمالهم.

كان على ادعيس الانتظار 10 دقائق فقط ليقع ما كان يخشاه. انقطع الحبل وانفلت حجر كبير مباشرة على ساقه. الآن أصبح إدعيس معاقا إعاقة دائمة.

النتيجة معروفة سلفا يقول العامل المصاب, ويتابع, طردت من عملي من دون حتى دفع تعويض رمزي لي.

بعد أن رفض صاحب العمل التكفل بدفع تكاليف العلاج أو الاعتراف بإصابة أدعيس, توجه الأخير لمكتب العمل وقدم شكواه, كما رفع دعوى قضائية ضد رب العمل.

يقول: رفعت دعوى على حسابي الخاص, وها أنا انتظر منذ أكثر من عام, من دون أي قرار أو نتيجة واضحة.

حتى البلدان التي تضج بالفساد, وتراعي رب العمل على العامل تتكفل قوانينها تسريع عملية التقاضي في القضايا العمالية, أما هنا, هنا في الخليل, فالأمر مختلف ينقل إدعيس على لسان محاميه شكواه.

أمسك ادعيس بساقه المعطلة, وأزاحها نحو ساقه الأخرى, وهو يقول: كنت أعلم قبل تعرضي للحادثة, انهيار مستقبلي وأسرتي في حال أصبت خلال عملي, ولكن لم استطع التوقف, وصبرت على أمل عدم تعرضي لشيء.

بعد أن أنتهى من تحسين وضع ساقه. بدأ إدعيس يشير بأصابعه, ويعدّ بها: لا تعويض, ولا علاج, ولا عمل, ولا قدرة على العمل, ولا رأفة, ولا حقوق.

في الحقيقة لم تأت معاناة إدعيس بجديد, فهذا ما يختبره يوميا عزمي دودين مدير دائرة التفتيش في دائرة عمل محافظة الخليل.

بل إن دودين يكشف عن أكثر من ذلك ل¯ مشروع جديد حين يقول: أظهرت جولات الدائرة إثناء التفتيش عن وجود أكثر من 60 % من المنشآت والمصانع التي وقعت بها إصابات غير مؤمنة, ولا تطبق شروط السلامة العامة.

ويضيف إن هناك شكاوى شبه يومية يتقدم بها عمال مصابون من اجل الحصول على حقوقهم العلاجية, التي تنكر لها أصحاب العمل, مشيرا الى أن شكاوى عمال الخليل تجاوز منذ بداية العام الحالي أكثر من 50 شكوى.
خياران: إما القضاء أو فنجان قهوة.

أما العامل أيمن كرامه الذي فقد عينه إثناء عمله في مصنع أخشاب فقد وضعه رب عمله أمام خيارين, الأول المراهنة غير الموثوقة على كسب الدعوى القضائية التي رفعها, والتي ربما تبقى لسنوات طويلة ومن دون جدوى, أو إبطال الدعوى القضائية للجوء إلى فنجان القهوة.

بلجوء أصحاب المصانع غير المؤمنة للصلح العشائري أو ما يعرف ب¯ فنجان القهوة في تسوية قضايا العمال المصابين, خاصة في قضايا الموت والإعاقة الدائمة, تضيع الكثير من الحقوق.
فنجان القهوة يستطيع فك اشتباك النزاع بين أطراف القضايا الشائكة, ولكن لا ضمانة لتحقيق العدالة. فيما تجري المعالجات الأخرى عبر سياسة التفضّل والمنح والهبات بحصول عائلة الفقيد او القعيد على مبلغ زهيد من رب العمل.

لم يجد العامل المصاب كرامة حلا لمعضلته. فالمعادلة صعبة للغاية كما يقول. كأنه وضعني امام خيارين, إما خسارة كل شي أو التعويض بالشيء اليسير تفضلا من رب العمل ومنّة, خاصة وهو يستند برفضه التعرف على إصابته, أني كنت ألعب مع زملائه بالمكبس, مما أدى إلى إصابتي كما يزعم.

أما الإصابات الخفيفة والمتوسطة, والتي تزيد في بعض الأيام عن 4 إصابات,  كما تفيد دائرة التفتيش, فتحل في العادة بتنازل العامل عن حقه مقابل استمراره في العمل أو السماح بمنحه بضعة أيام اجازة.
لا عيادات للطب المهني.

سعيد درويش عامل من الخليل أيضا. درويش اليوم قعيد الفراش, بعد إصابته بمرض الانزلاق الغضروفي أثناء عمله في أحد المحاجر, فله قصة اخرى.

يقول: لم أجد من يتعرف على إصابتي. فصاحب العمل غير مستعد لتعويضي أو دفع علاجي وشركة التأمين لا ترى في مشكلتي الصحية شأنا يخصها بعد عجزي عن إثبات بان إصابتي جاءت نتيجة عن العمل.

يتهكم درويش على طلب الشركة أن يثبت بنفسه أن إصابته خلال العمل بالقول: لو كنت أعلم متى سأصاب لكنت صورت نفسي, وأنا أقع على الأرض بعد إصابتي في العمل, أو لكنت جئت بالشهود, واجلستهم بعيدا عني قليلا, ثم حملت ذلك الحمل الذي أودى بظهري, ورماني في آلام الانزلاق الغضروفي.

من الصعوبات التي تعاني منها دائرة العمل لحصول على حقوق العمال أمام المحاكم - وفق ما ذكره مدير دائرة التفتيش في دائرة عمل محافظة الخليل - غياب عيادات الطب المهني, والتي يتم من خلالها تشخيص الإمراض على أنها إصابات عمل.

دودين يعترف: هذا الإجراء حوّل العمال الى فريسة سهلة لأصحاب العمل الذين طردوا المئات لمطالبتهم بحقوقهم العلاجية, أما من يريد الاستمرار بالعمل فعليه أن يخضع لشروط أربابه.
ويقول: نفشل دائما في إثبات انتشار مرض السرطان بين عمال مصانع الدهان والسباكة في المحافظة لغياب هذه العيادات.

ويسرد دودين قضية رفض صاحب أحد المصنع تحويل نحو 30 عاملا الى الأردن لإجراء فحوصات طبية تثبت أو تنفي انتشار عنصر الزرنيخ في الدم الناتج عن الدهان, وبقيت هذه القضية معلقة منذ سنوات في المحاكم, بحجة أن صاحب المصنع غير مضطر لدفع التكاليف.

ويقول: كشفنا وجود التفاف واضح على القانون في بعض المصانع المؤمنة حيث يستثني من بوليصة التأمين درجات الإصابة الخطرة كالإعاقة, إضافة الى بعض الإمراض مثل الانزلاق الغضروفي وضربات الشمس اللذين ينتشران بشكل واضح بين عمال التحميل في المحاجر.

وسط هذا المناخ, فإن رب العمل يستطيع وضع الشروط التي تناسبه. يقول دودين: تكون هذه الشروط في كثير من الاحيان مهينة وغير إنسانية, وجارحة للكرامة, ولكن العامل الخليلي يضطر تحملها.
من هذه الشروط تعهد العامل بعدم التوجه لأي جهة في حال وقوع إصابة او مشكلة, ومن لا يلتزم  يعتبر مطرودا من دون سابق إنذار. يقول دودين.

هو مشهد وقفت أمامه دائرة التفتيش في دائرة عمل محافظة الخليل عاجزة لا حل أمامها سوى الكي. يقول دوين: رفض أصحاب العمل التعامل مع المصابين جعلتنا نحوّل عشرات القضايا للنيابة العامة من اجل تحصيل الحقوق لأصحابها.

المصانع: رفض إجابة أو تحميل مسؤول الإصابة للعامل
في فلسطين, لا بؤرة صناعية أشهر من مصانع ومنشات الخليل غير المؤمنة, لكثرة وقوع عشرات الإصابات فيها. من أجل ذلك كان لزاما الحصول من أصحابها على تعليق, وخاصة على القضايا المرفوعة ضدهم. ولكن ذلك لم يكن سهلا.

البعض حمّل العمال المصابين المسؤولية بحجة عدم الالتزام بشروط السلامة العامة, ولكن المعظم رفض حتى استقبالنا.

في بلدتي الشيوخ وبني نعيم تنتشر بين الإحياء السكنية محاجر أقيمت من دون ترخيص ولا تطبيق لابسط معايير وشروط السلامة العامة.

يعلم أهل المنطقة ذلك. ولكن ما يعلمونه أكثر من ذلك, أن قرارا من مجلس الوزراء الفلسطيني الصادر في نهاية عام 2010 والقاضي بإغلاقها جميعها لكثرة الإصابات التي وقعت بها ولخطورتها على البيئة الفلسطينية, لم يعن شيئا على الارض.

المحاجر في بلدتي الشيوخ وبني نعيم ما زالت قائمة, والاصابات ما زالت تقع. أما قرار مجلس الوزراء الفلسطيني, فانه لا يساوي الحبر الذي كتب به.

تلاعب ببوليصة التأمين

فادي قديمات مدير شركة التأمين الوطنية أكثر الشركات المؤمنة لديها المنشآت الصناعية في محافظة الخليل قدم زاوية أخرى للمشهد.

يقول نحن لا نستثني في بوليصة التأمين أية إصابات عمل, ولكن ما نطلبه من العامل إثبات ان الإصابة أو المرض الذي أصيب به ناتج عن العمل.

بالنسبة للعمال المصابين فان مثل هذا التصريح يقفل القضية برمتها ضد حقوقهم, فمن أين سيأتون بالاثبات مع غياب عيادات الطب المهني في فلسطين. يقول قديمات: بغير الاثبات لا يمكن للشركة تعويض أو علاج العامل.
ويشكك قديمات في دقة المعلومات التي يقدمها صاحب العمل عن عماله. هي اذاً اكثر من كونها افتقارا لبنية تحتية طبية مهنية, أزمة ثقة. يقول: يوجد تلاعب وانتهاك واضح من قبل أرباب العمال فيما يتعلق بإخفاء قيمة الراتب الحقيقي الذي يتقاضاه العامل شهريا, بهدف تخفيض الرسوم المدفوعة لبوليصة التأمين.

ما يعنيه ذلك على الارض ولدى وقوع حادث ما للعامل المصاب بعجز جزئي أو كلي حرمانه من الحصول على حقه المفروض للعلاج أو التعويض.

وتستند شركات التأمين بذلك الى نص قانوني يقول: دفع 75% من الراتب الشهري خلال 6 أشهر من الإصابة للعجز الجزئي وعام للعجز الكلي.

بل إن قديمات يكشف عن وجود مئات الإصابات بين العمال في المصانع المؤمنة التي لم يتعرف عليهم التأمين لعدم إخبار أصحاب المصانع الشركة بوجودهم أو التحاقهم بالعمل أو لتهرب أرباب العمل من دفع بوليصة التأمين الذي يعتبر ملغى خلال فترة شهر من استحقاق الدفع وبعد إرسال تحذير خطي للمصنع.

عقوبات ولكن ليست رادعة

ولكن المحامي ياسر زيدات متخصص في القضايا العمالية. يقول: إن هناك تهرب واضحا من شركات التأمين من دفع مستحقات العلاج والتعويض للعمال المصابين بحجة عدم كفاية البيانات, وعدم اعتراف أصحاب المصانع على العمال المصابين, مما يجعل هذه القضايا شبه مستحيل وصولها الى نتائج مرضية لحقوق العمال.

وحتى إن تم ذلك, فان المحامي زيدات يقول انها تحتاج الى وقت طويل, وهذا يستدعي من العمال علاج أنفسهم على حسابهم الخاص, ودفع نفقات للمحامي والمحكمة, مما يعني ان العامل ليس فقط مضطرا للتعامل مع نتائج اصابته على جسده بل وعلى لقمة عيشه في ظروف صعبة, حيث لا تكفي الحادثة اذا اراد العامل تحويلها الى قضية عن طلب الصرف عليها باستمرار.

يقول إن على طاولته 10 ملفات عمالية تتعلق بعجز نتيجة الاصابة, منذ بداية عام 2011 الحالي فقط.

أما المحامي مازن عوض فيقول ان قضايا العمال في المحاكم الفلسطينية تأخذ وقتا طويلا لإصدار الحكم وانهاء القضية, حيث تصل في بعض القضايا الى 5 سنوات مع عدم وجود ضمانات لتحقيق حقوق العمال المصابين.
يقول: هناك قرارات غير منصفة تتمثل بمعاقبة أصحاب المنشآت والمصانع غير المؤمنة المتنكرين لحقوق العمال المصابين بغرامة مالية لا تقل عن (300) دينار ولا تزيد على (500) دينار, كما تنص المادة (136) من قانون العقوبات في قانون العمل الفلسطيني رقم 7 لسنة 2000م , مؤكدا ان هذا القانون يساهم الى حد بعيد في استمرار انتهاك حقوق العامل الفلسطيني.

محاكم متخصصة

ويفسر رئيس نيابة الخليل راسم البدوي سبب تأخر البت في قضايا العمال المصابين بالعدد الكبير للقضايا المرفوعة للنيابة في مختلف مجالات الحياة, وهو ما يعني انشغال القضاة والنيابة العامة على الدوام.
من اجل ذلك دعم البدوي فكرة وجود محاكم عمالية متخصصة, للإسراع  في حل قضايا هذه الشريحة الكبيرة من أجل تخفيف النفقات على العمال المصابين وتحصيل حقوقهم وفق ما ينص عليه القانون.

وقال تم إنشاء محكمة عمالية متخصصة في رام الله بداية شهر أيار الحالي, وسيتم تعميمها في باقي المحافظات للتسهيل على العمال المصابين, وبالنسبة للمصانع غير المؤمنة فان النيابة العامة تجبر أصحابها على تأمينها.
العمال الفلسطينيون في محافظة الخليل يبحثون عن لقمة عيشهم في بيئة آمنة, ولكن وسط تنكر أصحاب العمل لحقوقهم وقصور في القوانين, والبنى التحتية الطبية والمهنية, لا أحد يمكن له أن يضمن لهم هذه البيئة الآمنة.
يقول ادعيس: العامل الخليلي يعمل وكأنه في ساحة قمار.. أما أنا فخسرت

أضف تعليقك