لمن هذه السطور

أجلسها مقابله.. كانت تتوسطهما منضدة صغيرة علتها رقعة الشطرنج.. اختارت اللعب بالقطع السوداء لتزداد فيها الأدضاد فتزيدها جمالا .. لم يكن معتاداً أن يلعب بالأبيض.. لم يكن معتاداً على الفعل.. كان دائماً يلوذ بردّة الفعل.. حرك جندي الملك خطوتان.. تفاجأ من نفسه.. كيف يقفز خطوتين وهو من دراويش الطريقة الردّ فعليّة.. ضمت راحتها مثل فنجان قهوة وضعت فيه ذقنها الصغير المستدير.. تتأمل الرقعة بعمق.. كان ينسط بطرب لصوت أنفاسها تخرج من أنفها بينما شفتاها الصغيرتان أطبقتا على بعضهما البعض وكأنها تتعبد .. رفع رأسه إلى الأعلى قليلا.. ترنحت مشاعره.. يا إلاهي.. كأنه لأول مرة يراها.. شعرها يقطع طريقه إلى أعلى زاويتي صدرها عابراً خديها بكبرياء من على يمينها وباستحياء من على يسارها.. لم يدرِ كم مر من الوقت.. سحب ببطء يدها من تحت ذقنها وأودعها راحتيه.. ترنح رأسها قليلا.. تدلى قليلا.. حولت عيناها إليه.. أزاح المنضدة التي تفصل بينهما بقدمه وكأنه يفتح حصنا.. ضمها إلى صدره بحذر يفوح منه عبق نشوة سيجارة مراهق في السر..  لم تقترب.. لم تبتعد.. أراح شفتيه على صحن خدها.. دارت به الأرض ودار بها.. باح لها بسره هامساً في شفتيها.. دخل الجنة بغير حساب.. دارت به الأرض ودار بها.. ظل في مكانه.. على وضعه.. يتلمس شفتيه.. يبحث عن غطائهما الذي اختفى.. مد يده في الهواء.. لا شيء.. مد ذراعيه وأطبقهما فارتدّا إلى صدره..  لا شيء.. دارت به الأرض ودار بها.. بالكاد عاد لمقعده.. ارتمى فوقه كأنه سقط من السماء.. دارت به الأرض ودار بها.. أمسك هاتفه.. لا شيء.. فتح باب بيته.. لا شيء.. عاد إلى مقعده.. دارت به الأرض ودار بها.. فتح على اسمها في هاتفه.. نظر.. حرك أنامله.. أغلق هاتفه.. دارت به الأرض ودار بها.. أخذته سِنَة نوم.. عادت إليه بابتسامة كشفت عن أسنانها فإذا هي قطع الشطرنج البيضاء.. حاول التقاطها.. لا شيء.. وجهها ازداد بياضه.. شفتاها تتلامعان.. عيناها كما يجب أن تكونا دائما ناعستان تبحثان عن كتف لتغفوا عليه.. ارتج هاتفه فانتفض.. نظر إليه فانفتح.. انكمش جلده..رسالة تحية مسائية من مجموعة على واتساب.. باعد بين إبهامه وسبابته ليترك هاتفه يسقط إلى جواره.. حاول أن يغفو مرةً أخرى لعلها تلتقيه.. لم يغفُ.. لم تأتِ.. لم يذهب.. كل شيء على وضعه.. دارت به الأرض ودار بها.. أما هي، فآثرت الثبات.. بحث عن شيء يعيده للحياة.. صدمها؟ صدمته؟ ألهمها؟ ألهمته؟ كلاهما ربح شيءً ما.. استوى في جلسته.. سحب منضدة الشطرنج ببطء إلى مكانها لتتوسط بينه وبين مقعدها الفارغ.. أعاد ترتيب القطع.. أدار الرقعة مائة وثمانين درجة وجلس ينتظرها ليبدأ بعد أن تبدأ.. قد لا تأتي.. قد لا يذهب.. قد يظل كل شيء على وضعه.. لكن ستظل الأرض تدور وسيظل بها يدور.
لمن هذه السطور ؟ له.. لها ؟ لزائرة الحلم التي تخشى النهار وتفر قبل أن تصيح الديَكة؟  لا يهم.. فلتكن لهم جميعا.. فلتكن همهمات درويش في حلقة ذِكْر عن الوَجْد والوَلَع.. أو لتكن ضالّة مكلوم من ضحايا مسلسل "خلينا خوات وزملة أحسن"، أو لتضعها نرجسية على صفحتها على فيسبوك لتري العالم سحرها وتأثيرها.. فلتكن بكائية ثَمِل يشرب لينسى فيتذكر .. فلتكن فرصة سارقي الأفراح سماسرة الأحزان ليتهموا صاحبها بالفراغ والانفصال عن "واقعنا المؤلم".. هي أي شيء من ذلك، وربما لا شيء منه.. الأكيد أنها إعلان حياة حين تكتب وشهادة وفاة حين تكبت.

أضف تعليقك