هل يصلح عطّارو الدولة ما أفسَدُه دَهر التجهيل؟

في أغلب أمم العالم، يوجد أحداث تاريخية مفصلية تشكل أساس قيام الدولة، حيث يتوافق عليها الشعب باعتبارها رواية وطنية جامعة توحدهم وتشكل عنوان هويتهم ويحتفلون بمناسبتها كل عام...

ففي الولايات المتحدة ستجد الثورة ضد الحكم البريطاني ليتبعها وثيقة إعلان الإستقلال عام 1776 والتي تعتبر من أهم كنوز متاحف أمريكا وعماد فكرة الأمة الأمريكية...

وفي فرنسا هنالك الثورة الفرنسية عام 1789 واقتحام الباستيل ومن بعدها تحوّل فرنسا من مملكة إلى الجمهورية الأولى عام 1792...

وفي الجزائر مثلاً يقدس كل جزائري ثورة المليون ونصف شهيد، ويعتبرون نصرها يوم ميلاد وبعث وطنهم وتحرره من الاستعمار...

ولن تجد أمريكياً أو فرنسياً أو جزائرياً اليوم يختلف حول تلك المرجعيات الوطنية والقومية لتاريخ دولهم...

كذلك في الأردن، وبغض النظر عن المؤامرات التي حيكت لإجهاضها، فإن أساس قيام الدولة وعنوان هويتها الجامعة كانت ولا تزال تتمثل في الثورة العربية الكبرى ضد الاحتلال العثماني بقيادة الشريف حسين بن علي عام 1916، والتي صادفت ذكراها الرابعة بعد المئة قبل أيام في عيد الجيش...

إلا أننا ابتُلينا في هذا البلد بأن فئة كبيرة من الشعب الأردني قد تم غسيل أدمغتها بقصد طمس تاريخ المنطقة وتزوير الوعي الوطني لأبنائها لكي تبغض أجيالٌ بأكملها هذه الثورة ضد الدولة العثمانية منذ نعومة أظفارها، بل وترى فيها شراً مطلقاً...

هذا أمر عاصرته بنفسي على مقاعد الدراسة في أوائل الثمانينات من قبل بعض الأساتذة، حيث كانوا يتجاهلون المنهاج الحكومي ويلقنوننا الرواية البديلة لتاريخ المملكة، في محاولة إقناعنا بأن الشريف حسين قد ارتكب أكبر خطيئة في التاريخ عندما ثار على الأتراك وشارك في سقوط ما يسمونه زوراً بدولة الخلافة...

ولذلك تجد نتائج هذا الإنفصام اليوم جليةً في أعداد الأردنيين الذين يرون في إردوغان بطلاً منقذاً وبصيصاً من الأمل بالعودة إلى استعمارٍ عثماني جديد!!

هذه الجموع المخدوعة إما أنها لا تعلم أو هي لا تأبه بالخوازيق التي جلس عليها أجدادهم وبالتضحيات التي قدمها أهل هذا المشرق للتخلص من حكم سلاطين آل عثمان، متناسين أن إردوغان، برغم كل شعبويته الكاذبة، هو في النهاية علماني حتى النخاع باعترافه وإقراره، فهو لا يجرؤ أصلاً على الإنحراف قيد أنملة عن المبادئ الأتاتوركية العلمانية الراسخة للدولة التركية...

في الأردن، مع بداية هذا القرن، حاول عطّارو الدولة أن يُصلحوا ما أفسَدُه دَهر التجهيل، فشاهدنا حملات إعادة بناء الهوية الوطنية مثل أهل العزم، والأردن أولاً، وكلنا الأردن، وأهل الهمة، وارفع راسك أنت أردني، وغيرها من الحملات التي اعتمدت على الشعارات المنمقة بدلاً من معالجة صميم الخلل في ازدواجية انتماء فئة كبيرة من الشعب ما بين مشروع وطني أردني، وبين أحلام خلافة وسلاطين ودولة عليّة تحكمنا من اسطنبول...

هذا الخلل في الانتماء والمتمثل في رفض هذه الفئة الضالة لمفهوم الدولة الحديثة وإصرارهم على كون الأردن مجرد دولة مؤقتة ووليدة خطأ تاريخي سيبقى خنجراً يطعن في خاصرة الوطن وسرطاناً ينخر في عظمه، ولا يمكن معالجته إلا بامتلاك الشجاعة لمواجهة هذا التيار في جذوره في مؤسسات الدولة التربوية والتعليمية...

لا يوجد أي حل آخر سوى الجراحة العاجلة، وإلا فإن التناقضات ستزداد سوءاً والشرخ سيزداد حجماً، فالأوطان التي لا يؤمن أبناؤها بأساس سبب وجودها ستبقى مهددة بالفرقة والتشرذم والانقسام...

أضف تعليقك