لأطفال فلسطين والمنطقة الاحتفال بعيد الميلاد

اجتهد راعي كنيسة الميلاد الإنجيلية اللوثرية في بيت لحم، القسّيس منذر إسحق، وحوّل أحد رموز عيد الميلاد، التي تشمل مجسّماً للطفل يسوع، المولود في مذود متواضع، بحضور الرعاة، إلى ركام من الحجارة، ولفّ مجسّم يسوع بحطّة فلسطينية. وفي تفسيره لتلك الصورة التعبيرية، قال إن المسيح لو ولد في هذا الوقت لكانت ولادته بين الركام في غزّة. وفي عظة للمؤمنين أضاف القسّيس أن ولادة المسيح المتواضعة وأقواله المدوّنة في الأناجيل تعكس التعاطف مع المشرّدين واللاجئين والمظلومين، ما يعني أنه لو ولد في عام 2023، لكان من الطبيعي أن يجد نفسه بين الشعب الفلسطيني المظلوم والمشرّد وبين أطفال فلسطين الذين يتعرضون مع شعبهم لحرب إبادة.


وكان للبابا فرنسيس رأي في كلمة إبادة، حيث كرّرها في لقائه مع وفد فلسطيني دفعت عائلاته ثمن الحرب على فلسطين، حيث قالت الناشطة من بيت لحم، شيرين هلال عوّاد، التي روت قصة استشهاد خالتها وخالها في غزّة إن الحبر الأعظم الذي كان يتكلّم من خلال مترجم استخدم كلمة إبادة بالإنكليزية (Genocide) مرّتين عند سماع الشهادات الحية من الوفد المكون من 12 فلسطينياً، في اللقاء الذي استمر نصف ساعة مع البابا فرنسيس في الفاتيكان.

وكان الوفد قد فوجئ عندما قال لهم البابا إنه في تواصل شبه يومي مع خوري كنيسة اللاتين في غزّة، وكانت لديه معرفة دقيقة بكل ما يحدُث في غزّة. ولكن الغريب في رواية الوفد الفلسطيني إلى روما، أن الناطق باسم الفاتيكان كذّبه، عندما حاول إقناع الإعلام بأن البابا لم يستخدم وصف الإبادة، في حين ردّت شيرين: "الوفد بأجمعه سمع كلام البابا وحاسّة السمع لدينا جيدة".

تعكس الفجوة التي نمرّ بها التخبّط العالمي، وبالذات الغربي، الذي يرفض تقبّل الحقائق الدامغة، في محاولة يائسة لحصر النقاش على ادّعاءات الاحتلال المستمرّة بأنها تخوض حرب الدفاع عن النفس، وأنها "لا تقصد قتل المدنيين"، في حين أن قادتها كانوا أول من نزعوا الإنسانية والمدنية عن الشعب الفلسطيني، الأمر الذي برّر لهم ولداعميهم تنفيذ المجازر بحقّ الأبرياء ومساكنهم ومؤسّساتهم. ومع حلول موسم عيد الميلاد المجيد، أقرّ رؤساء الكنائس المسيحية في القدس إلغاء كل مظاهر البهجة بالعيد، واقتصار الأمر بالشعائر الدينية، إلا أن أصواتاً طالبت بضرورة التفكير خارج الصندوق، بدلاً من اتخاذ القرارات السهلة والشعبوية.


وقد عبّر زميل صحافي، وهو ليس مسيحيًا، عن رأي مختلف في موضوع إلغاء الاحتفالات بعيد الميلاد. فقد كتب أسامة الرنتيسي، في موقع الأول نيوز، بعد التأكيد أن هدفه ليس المزايدة على رؤساء الكنائس بقوله: "أرى (بتواضع جم) أن إضاءة شجرة الميلاد في الشوارع العامة والبيوت أكبر رسالة إلى العالم، وإلى قادة الحرب الصهاينة، أننا مستمرّون في الحياة والفرح، مهما كان بطش عدوانكم، ومهما حاولتم قطع الحياة والكهرباء والماء والغذاء عن الأهل في قطاع غزّة والضفة الفلسطينيتين، فأكثر ما يغيظ دولة الاحتلال النور والفرح، لأنها دولة عتمة ولطم وقتل". وختم بدعوة الأحبّاء إلى "أن لا يتقاعسوا عن الاحتفال بعيد الميلاد وإضاءة شجرة الكريسماس، فهذا طقسٌ للفرح والحياة، فلا تدعوا الموت يفرح بالانتصار علينا".

قد يكون صعباً للمكون المسيحي في المشرق الاحتفال بعيد الميلاد بوجود المآسي في فلسطين. وفي تخوّف من عدم فهم بعضهم ضرورة الاحتفال بالحياة، ولكن من الممكن إيجاد حلول خلاقة للاحتفال بعيد الميلاد، من دون الابتعاد عما يحدُث في غزّة. فمثلاً، حوّلت مدرسة الفرندز في رام الله التي تعرّض ثلاثة من خرّيجيها لمحاولة اغتيال في أميركا بسبب ارتداء الكوفية الفلسطينية والتحدّث بالعربية (بقي أحدهم في حالة شلل) نص أغنية ميلادية مشهورة "The Little Drummer Boy" بكلماتٍ ذات علاقةٍ بما يحدُث في فلسطين ولأطفال غزة. كذلك أقامت خدمة سندك التي تهتم بالأيتام والأطفال فاقدي النسب في دول الشرق الأوسط  احتفالاً متواضعاً في المدرسة المعمدانية في عمّان، ووفّرت فرصة لسماع ترانيم عيد الميلاد، ومنها الترنيمة الرائعة للأب اللبناني منصور لبكي: ليلَةَ الميلاد يُمَّحَى البُغضُ، ليلَةَ الميلاد تُزهِرُ الأرضُ ليلةَ الميلاد تُدفَنُ الحربُ، ليلَةَ الميلاد يَنبُتُ الحُبُّ/ عندما نسقي عطشانَ كأسَ ماء نكونُ في الميلاد، عندما نكسي عُريانَ ثوبَ حُب نكونُ في الميلاد/ عندما نكفكف الدموع في العيون نكون في الميلاد، عندما نفرِشُ القلوبَ بالرجاء نكونُ في الميلاد/ عندما أقبِّلُ رفيقي دونَ غشّ أكونُ في الميلاد، عندما تموتُ فيَّ روحُ الانتِقام أكونُ في الميلاد/ عندما يُرمَّدُ في قلبيَ الجفا أكونُ في الميلاد، عندما تذوبُ نفسي في كيان الله أكونُ في الميلاد.
ثمّ قُدِّمَت هدايا إلى الأطفال في منظر جميل، وفّر بسمة لهؤلاء الأطفال. وأحيت مؤسّسات وكنائس في فلسطين والأردن حفلات موسيقية ميلادية، وفّرت فرصة، ولو بسيطة، للشعور بالمناسبة الميلادية.
موقف الكنائس والمجتمع المسيحي مفهوم ومنطقي، إلا أن هناك من يقول إن من الأفضل التفكير بصورة إبداعية، كما عمل القسيس إسحاق بتحويل الاحتفال إلى تذكير للعالم بأن مولود بيت لحم هو رسول السلام إلى العالم، وإن رسالة الكنيسة وتضامنها مع الشعب الفلسطيني ومع غزّة المتألمة يمكن أن يتما من دون إلغاء حقّ المكوّن المسيحي، وبالذات الأطفال، بالاحتفال بالعيد، وأهم عناصر الصمود في كل الأزمات هو التمسّك بحق الحياة، وعدم الخضوع لما يفرضه المحتل من محاولات قتل البسمة وحجب الفرح بالخصوص عن الأطفال.

أضف تعليقك