الرياض-عمّان.. زيارة طي الملفات؟

يونيو الملتهب بطبيعته عام 2007، ولا أزال أذكر ذلك اليوم الذي كنت أقف فيه في أحد شوارع عمان التي أغلق معظمها احتفالا "غير مسبوق" بزيارة الملك السعودي حينها، عبدالله بن عبدالعزيز، وفي انتظار أي سيارة أجرة تنقذني من قيظ الحرارة في تلك الظهيرة. كانت الأعلام السعودية والأردنية مع اليافطات الترحيبية تغطي نواصي الشوارع والطرق على امتداد البصر.

 

كان الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز استثناء لا يتكرر في تاريخ العلاقات بين السعوديين والهاشميين تحديدا، فالرجل كان أكثر أقطاب العائلة المالكة السعودية لطفا مع أقرانه الهاشميين، وإبان مرحلة توليه ولاية عهد العرش السعودي في حقبة الراحل الملك حسين، كانت الحكايات متواترة وكثيرة عن سعيه الحقيقي لتلطيف أجواء الاحتقان "التاريخية" بين العرشين، خصوصا بعد مرحلة حرب الخليج الأولى وغزو الدكتاتور العراقي صدام حسين للكويت.

 

وكنت كتبت في مقال سابق العام الماضي حكاية تكشف جانبا من حقيقة العلاقة "الهاشمية السعودية" وفيها أن الملك الراحل، حسين بن طلال، كان يحمل إرث أجداده في الحجاز بكل جدية، وكانت له سيطرته على الأشراف في مكة حتى في ظل العهد السعودي، وكان يحاول دوما ألا يقطع تلك الصلة. ومما يروى في أيامه الأخيرة في مستشفى "مايو كلينيك" أن الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز زاره هناك (كان أيامها أميرا وولي عهد الملك فهد)، وحسب الرواة في غرفة الملك، فإن الأمير السعودي أخرج من كيس حمله معه أعشابا برية وأمر بغليها وإسقائها للملك المريض، منوها للملك المتعب من شدة المرض أن تلك الأعشاب "من أرضكم في الحجاز". كانت تلك لفتة لها أثرها المعنوي على ملك أتعبه الإرث العميق شديد التشابك والتعقيد بين عروش هاشمية تناوبت بين الحجاز وسوريا واستقرت في النهاية على ضفتي نهر الأردن.

 

لكن اليوم غير البارحة، والحاضر يختلف بكل معطياته عن الماضي، والتحضير جار الآن على صيغة استعجال لتحضير مستقبل مختلف عن كل ما سبق، والملك الأردني، عبدالله الثاني، يدرك كل تلك المعطيات كما أن ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، يتسابق مع المستجدات الإقليمية والعالمية بروح مختلفة عن كل إرث الدولة السعودية المثقل بالوهابية والسلفية، ويسعى للتخفف منه بدور أكبر وحضور أكثر ثقلا بمعطيات كل ما هو حوله، كما أن البلدين وقد جاوز كل منهما قرنا من العمر بعد التأسيس قد تجاوزا على ما يبدو حكايات إرث العروش، وهذا ما تدركه عمان والرياض معا.

 

ينسى كثيرون أن الملك الأردني بلغ الستين من عمره مؤخرا، على كل مظاهر الشباب والحيوية التي تبدو عليه بحكم أنه رياضي متمرس، وولي العهد السعودي أصغر سنا لم يصل أربعينه بعد، لكن للرجلين قراءات متقاربة للعالم، تتقاطع عند الرؤية الإقليمية وقد تتناقض، وهذا طبيعي، عند تضارب المصالح بين الدول.

 

ليست المرة الأولى تلك التي يزور فيها الأمير السعودي محمد بن سلمان الأردن، زارها حين كان وليا لولي العهد (وكان ولي العهد حينها الأمير محمد بن نايف الذي أعفي من مناصبه عام 2017)، وها هو يزورها ضمن جولة مكوكية إقليمية وليا للعهد، مديرا تنفيذيا فعليا لكل سياسات المملكة السعودية، وصاحب مشاريع طموحة على مستوى الإقليم.

 

حسب مصادر متصلة بالعاصمة الأردنية عمان، فإن الزيارة "السعودية" كانت إيجابية إلى حد كسر حواجز أنشأتها أزمات سابقة، وينظر "الأردن الرسمي" إلى الزيارة بإيجابية حذرة دون الارتقاء بها إلى احتفالية استقبال الملك الراحل عبدالله بن عبد العزيز، لكن الإشارات كانت حاضرة بترحيب دافئ من خلال منح ولي العهد السعودي قلادة "الحسين بن علي"، وهو أرفع الأوسمة في الأردن ويمنح لقادة الدول! ويحمل اسم الحسين بن علي، مؤسس العرش الهاشمي وآخر ملوك الهاشميين في الحجاز، وقد تلقاه ولي العهد السعودي بدفء ورحابة صدر (طبعا ندرك أن الترتيبات البروتوكولية كانت سابقة للزيارة وترتيباتها بما فيها منح الوسام).

 

الاجتماع الموسع الذي حضره مسؤولون من الجانبين، كان فيه كرم وعود سعودي للأردن الذي يعاني من ضائقة اقتصادية خانقة، وكانت أولى ثمار الزيارة تقديم استثمارات سعودية بقيمة 3 مليارات دولار، يتم تجديدها بمثلها في استثمارات لاحقة لم يتم تحديدها بعد، حسب المصادر، بالإضافة الى محادثات جادة لمشروع تحلية مياه البحر الأحمر في بلد أحد أهم مشاكله الحيوية نقص حاد في المياه، مع ربط المشاريع التنموية بمجملها مع مشروع "نيوم"، وهو أهم مشاريع محمد بن سلمان في الإقليم كله، وأحد متطلبات نجاحه الفعلي شراكة إقليمية كاملة متكاملة.

 

تطورات الحدود الشمالية للأردن كانت مدار بحث مشترك لأنها تدخل في مجال السعودية الحيوي في محاربة المخدرات الممزوجة بالعبث السياسي الإيراني في جنوب سوريا وتحت حماية "الفرقة الرابعة" التي يقودها ماهر الأسد برعاية طهران، وتلك نقطة توافق كبيرة بين الرياض وعمان.

 

ما لم يتم بحثه كان قضية "باسم عوض الله" والذي كان إلى فترة ما مطلبا سعوديا ملحا، ولكن حسب المصادر من الطرفين فإن "خادم السيدين" المدان والمسجون في سجن المخابرات الأردنية منذ صدور الأحكام القضائية عليه بعد ما تم تسميته بقضية "الفتنة" لم يتم بحث قضيته "على الأقل في الاجتماع الموسع"، وهو ما خيب آمال جنرالات الفضاء الإلكتروني في الأردن وقد راهنوا بمعظم طروحاتهم على أن ولي العهد سيغادر الأردن وعلى متن طائرته الشخصية الأكثر إثارة للجدل في زمن قريب باسم عوض الله، وحسب ما علمت فإن المستشار "السابق" العابر للعروش والدول لم يكن على أجندة ولي العهد السعودي المشغول بسباق ترتيبات إقليمية متسارعة ستغير وجه الشرق الأوسط ومحتواه عما عرفه الجميع طوال عقود.

 

الزيارة التي سبقتها زيارة إلى القاهرة، وتبعتها زيارة أكثر إثارة إلى تركيا حول فيها ولي العهد السعودي "مرحبا عسكر" إلى تحية الإسلام في رمزية مثقلة بالدلالات أمام الحالم بقيادة "الشق السني" من العالم الإسلامي كانت في الأردن سريعة ومقتضبة ودافئة شخصيا في اللحظات الأولى على مدرج المطار، وكان لافتا ذلك العناق بين ولي العهد الأردني ونظيره السعودي.

 

كانت قضية "الفتنة" امتحانا قاسيا في العلاقة بين المملكتين المتجاورتين بكل إرثهما التاريخي من الشد والجذب منذ البدايات في القرن الماضي، ولا يمكن القول إن العلاقة قائمة على المجاملات وحسب، فهناك محاولات عديدة من الرياض في التأثير على مواقف القرار السياسي الأردني خصوصا في مرحلة إدارة الرئيس السابق ترمب، وخطة صهره كوشنر "الشريك المفضل سياسيا واقتصاديا لدى السعوديين"، لكن العلاقات الاستراتيجية بعيدة المدى ضمن حسابات إقليمية حساسة تضع المملكتين في وضع يعرضهما للخطر في حال وصول عدم التوافق إلى التصادم والمواجهة، وهو ما يتجنبه الطرفان على الدوام وبصعوبة.

 

في قضية الفتنة، كان الملك أكثر وضوحا في حديثه مع قناة CNN الأميركية صيف عام 2021، حين قال بوضوح لا يخفي المرارة فيه: " نعلم جميعًا أن باسم، الذي كان يعمل في الأردن، هو مستشار أول في المملكة العربية السعودية. إنه يحمل جوازات سفر سعودية وأميركية… (لكن) نحن نتعامل مع هذا على أنه مشكلة داخلية، وتوجيه أصابع الاتهام لا يساعد على الإطلاق. لدينا تحديات كافية في المنطقة) ثم أضاف الملك: "نحن بحاجة إلى المضي قدما".

 

اليوم، يبدو أن المضي قدما وصل إلى مسافات متقدمة في الشرق الأوسط الذي يسعى فيه جميع الأطراف إلى الوصول نحو "تنمية" تتجاوز إنشائيات الخطاب السياسي إلى ضرورة حيوية وجودية للجميع، في ضائقة عالمية تشكل الكوكب كله، وواشنطن التي سيحط سيد البيت الأبيض فيها في الرياض قريبا مشاركا في قمة (الخليج + العراق ومصر والأردن) هي التي تحتاج الحلول من لدن أي تفاهمات ممكنة في الشرق الأوسط وليس العكس. الشرق الأوسط الذي أسلفنا اكثر من مرة وفي أكثر من مقال أنه يتم الآن إعادة تركيبه ضمن معطيات جديدة عنوانها الطاقة البديلة والتكنولوجيا، وهو ما يتطلب إعادة بناء بنية تحتية تبدأ بالنقل ولا تنتهي بمشاريع تنموية مستدامة تشمل الجميع، والجميع هنا بلا استثناء وهذا يعني إسرائيل أيضا.

القراءات "المقاومة" للتطبيع على كل ما فيها من مفردات خشبية لكنها تعكس أيضا واقعا يوميا معاشا محوره أن لا حلول ولا مشاريع تنموية في المنطقة بدون إعادة الأمل ( الحقيقي لا الواهم) لمآلات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وابتكار حلول قادرة على أن تجفف منابع القهر المنبتة للتطرف، وتنهي مزاودات التحجج بالقضية كمخلب "تدخل" إيراني يحاول السيطرة وفرض شروطه في أضعف حالاته.

 

التطرف هنا لم يعد ماركة "عربية إسلامية" خالصة، هناك تطرف "إسرائيلي" تمثله حكومات اليمين التي عكست خلال سنوات طويلة خلت مزاجا عاما إسرائيليا لا بد زحزحته "للمضي قدما".

 

التسويات "بحدودها الأقسى" هي احتمالات واردة، بديلا عن حرب ستكون الأقسى أيضا لو تهاوت باقي الاحتمالات في "لملمة" الإقليم وترتيبه من جديد.

*الحرة

أضف تعليقك

إعلامي أردني مقيم في بلجيكا، متخصص في شؤون الشرق الأوسط والدراسات التحليلية والرصد الإعلامي. كتب مقالات منتظمة في عدة صحف أردنية وعربية، منها جريدة الرأي الأردنية والدستور، وجريدة القدس العربي. وعمل مراسلا لجريدة الإمارات اليوم، ومحللا سياسيا على قنوات ناطقة بالعربية مثل العربية وفرانس 24 ودوتشه فيلة وسي بي سي أكسترا .