نموذجان متضاربان!

نموذجان متضاربان!

بكافة المعايير يعد قانون الأحوال الشخصية إنجازا مهما يسجّل لدائرة قاضي القضاة، وقد نجحت في تقديم نموذج متعدد الأبعاد في إتمام عمل القانون بصيغته الحالية، وتخليق حالة من التوافق الوطني الفريد على مضمونه، رغم أنه يفترض أن يكون نقطة افتراق لا توافق داخلي، نطراً لتباين مواقف التيارات الفكرية حول موضوعاته وقضاياه.

القانون يمثّل نقطة توازن بين التيارات الإسلامية والمحافظة من جهة والتيارات العلمانية واليسارية من جهة أخرى، في قضايا حسّاسة وخطرة تمسّ الأسرة والأمن الاجتماعي، وقد استبطن جملة من المقايضات اللطيفة بين الموروث والسائد وبين ضرورة التطوير والتقدم، التي تقتضيها الحياة اليومية للناس.

أنجزت دائرة قاضي القضاة الأعمال التحضيرية كافة حول مشروع القانون ومسوّدته بصورة ممتازة، إذ استدعت قضاة شرعيين من ذوي خبرة في التعامل مع المحاكم، بالإضافة إلى فقهاء في الشريعة الإسلامية وقانونيين، وقد اجتمعوا معاً على عمل المسودة، وتمّ عرضها على نخبة من العلماء والفقهاء في الداخل والخارج، لاستيعاب التغذية الراجعة، وقد نوقشت الملاحظات من قبل اللجنة المكلّفة فيما بعد.

بعد ذلك، قامت الدائرة بعرض المشروع على موقعها على شبكة الانترنت ودعت المنظمات الحقوقية والإنسانية والفعاليات الاجتماعية المختلفة لمناقشته وإبداء الآراء حوله، ودخلت الدائرة على خط النقاش مع مؤسسات متعددة، وأجريت حوله ندوات إعلامية متعددة، وقدّم كلّ رأيه في الموضوع، وتمّ تعديل بعض البنود بناءً على هذه الحوارات والمقايضات والتوصيات.

في المحصلة، كانت الفائدة بحق مضاعفة، أولاً نحن أمام قانون يحظى بقدرٍ كبير من التوافق النادر بين المنظمات الاجتماعية والاتجاهات الفكرية المختلفة، وثانيا وهو الأهم تخللت تلك المراحل المتعددة من التحضير والمراجعة عملية تثقيف إعلامية سلسة للرأي العام حول القانون، والجديد في بنوده والقضايا الحساسة التي تشتبك مع شؤونهم ومشكلاتهم، وانخرطت فئات متعددة في هذه النقاشات، ما مثّل بحد ذاته دعاية حقيقية للقانون، وساهم بنشر الثقافة القانونية في قضية الأحوال الشخصية، والجدالات المصاحبة لها، والاختلافات المرتبطة بها.

الغنيمة الثالثة، التي حصلنا عليها من هذه السلسلة المتتالية في الإعداد والإنضاج، أنّ القانون كرّس نموذجا متقدّما من الحوار الداخلي الناضج حول قضايا خلافية كبيرة، ذات بعد ديني وثقافي واجتماعي، وبين تيارات متباعدة كثيرا في أيديولوجياتها وأطروحاتها الفكرية، لكن لغة الحوار كانت عقلانية وهادئة، وجرى تبادل لوجهات النظر والحجج المختلفة، بهدوء، وكانت بالفعل حصّة تدريبية ممتازة على إنضاج الحوار الوطني، في إدارة شؤوننا العامة والمختلفة، والوصول إلى حلول وسطى بين التيارات المختلفة، وهي الغاية المتوخاة في العادة من هكذا حوارات.

يمكن بسهولة مقارنة هذا الإعداد المعرفي والقانوني والإعلامي للقانون بعشرات القوانين التي "سُلقت سلقاً"، وبعضها تمّ تعديله بعد لحظات على ولادته، وبعضها لم يصمد طويلاً، وبعضها لم يسمع بها أحد من المواطنين، مع أنّها قد تعالج موضوعات حيوية وحساسة ومهمة.

تكريس الثقافة القانونية هو مفتاح رئيس لبناء دولة القانون والمواطنة ومجتمع يعرف أهمية القانون وضرورته، ويحافظ عليه ذاتياً، وما حدث مع قانون الأحوال الشخصية هو نموذج مثالي للطريق إلى بناء هذه الثقافة، وفي الوقت نفسه فإنّ قانون الانتخاب نموذج مختلف تماما ومعاكس تماماً، ويمكن لأي شخص أن يلمس بسهولة شديدة الفرق بين المخرجات والنتائج في الحالتين.

العرب اليوم

أضف تعليقك