شيزوفرينيا رسمية

شيزوفرينيا رسمية

يقدم الأردن الرسمي منذ التأسيس، خطابا معتدلا. وتقدم الدولة نفسها من منظور مدني تقدمي تعددي، أو هكذا يُفهم!

تقابل هذا مظاهر مغايرة بحاجة إلى تفسير، أبرزها السماح لبعض من يعتلون منابر المساجد أيام الجمعة بتقديم خطاب إقصائي، يرفض الآخر ولا يؤمن به أبداً.

وفي الوقت الذي تفوح رائحة الطائفية من خطب هؤلاء، نشهد حصارا رسميا على تأسيس الأحزاب التي تؤمن بالحرية والتعددية والقيم الديمقراطية. ما يجعلنا نطرح سؤال: من نحن؟

هذه "الشيزوفيرينيا" تحتاج وقوفاً عندها ودراستها، لما تخلفه من تأثير بالغ على العقل الجمعي، كونها تزرع سياسات الفرقة، وتزيد الشروخ في مجتمع يرى الدم والقتل أينما نظر، وكيفما اتجه عبر الحدود!

رسميا، تجهد الأجهزة الأمنية في ملاحقة أتباع هذا النوع من التيارات الطائفية. لكنها على الضفة الأخرى تسمح لمنظريهم وقادتهم بتقديم خطابهم الإقصائي؛ ما ينسف من الجذور مبادئ تأسيس البلد، ويتعارض مع التوجه الرسمي المعلن. فمن يسمع بعض أولئك، يظن نفسه في مقاطعة تسيطر عليها هذه التيارات! ومن يسمع التحريض ضد الآخر، حد الدعوة إلى التكفير والقتل، يخّيل إليه أنه ليس في أردن الاعتدال والوسطية!

كيف يُسمح بتقديم هذا الخطاب المتطرف في بلد يؤمن بالتعددية، ويحترم الحريات المدنية؟ هل ثمة إدراك للنتائج الخطيرة المترتبة على ما يحدث؛ على المديين المتوسط والبعيد؟ بصراحة، لا أظن!

الأردن قام على التنوع. والتلاعب بهذه المعادلة خطير. فالخليط الديمغرافي حسّاس دوماً، ولا يحتاج إلى أعواد ثقاب تشعله، بل إلى سياسات حكيمة تعزز التعايش والتسامح.

تتعاظم المخاطر من هذا الخطاب الإقصائي، في ظل الحصار الذي تعانيه الحياة الحزبية في الأردن، وتعدد القيود التي تكبل بناءها وتطويرها. إذ ليس صحيحا ما يقوله مسؤول مهم، بأن الأردنيين ورفضهم للانخراط في الأحزاب هو ما أفشل فكرة التطوير؛ هذا تسطيح للفكرة، وابتعاد عن الأسباب العميقة للمشكلة.

وغياب الأحزاب صاحبة البرامج والأفكار، يشكل حاضنة اجتماعية لتنامي الفكر المتطرف، نتيجة غياب البدائل.
صحيح أنّ "الربيع العربي" خلّف كوارث. لكن الأسباب التي أخرجت الشعوب من بيوتها، ما تزال جاثمة، والأمل في تحقيق المطالب التي رُفعت، سيدفع المرء إلى الانخراط في تيارات تملك رؤية للتغيير، بغض النظر عما إذا كانت ذات أفكار متطرفة، طالما أنها تُشبع الرغبة في المشاركة، ورسم المستقبل حتى لو كان أسود.

الحكمة تقتضي أن تلتف الدولة، بكل مؤسساتها، حول رؤيتها المدنية؛ وأن تراجع الأسس التي قامت عليها لتقويتها؛ وأن تجهد هي قبل غيرها في خلق حواضن تناسب أحلام وطموحات مجتمع شاب يتوق للتغيير، بدلا من ترك أبنائه لقمة سائغة لأصحاب الأفكار والتيارات المتطرفة.

المجتمعات، ونتيجة حالة فقدان الأمل في التغيير، ستبقى تبحث عن ضالتها التي تحقق لها طموح التغيير. وهذه الضالة اليوم غائبة، بسبب سيطرة العقلية العرفية المحافظة على اللعبة السياسية، وسط إنكار كبير لواقع خطير بدأ يتسع مداه، ويتمدد في مختلف المناطق، فيما الكل يغمض عينيه ويصم أذنيه عن هذا الواقع، كأنه لا يريد أن يرى أو يسمع.

في ظل غياب الأحزاب، ومراكز التفكير التي تقدم رؤية مختلفة تستوعب الرغبة المجتمعية في البحث عن فكر يعبر عنها نحو مستقبل أفضل، سنكتشف قريباً أن الجيل الجديد هو إما عنصر فاعل في الحركات المتطرفة، وحامل لفكرها مروج له، أو العكس؛ أي جيل تائه يعيش بلا هدف أو غاية، ويفتقد إلى الحد الأدنى من الانتماء للبلد، ولا يعرف أبدا معنى المواطنة. وفي الحالتين، تظل النتائج خطيرة.

المصلحة تقتضي إعادة النظر في المعادلة التي تنظم الحياة الحزبية والفكرية، لفتح الأبواب الموصدة في وجهها، بدلا من أن تشرع الدولة هكذا أبواب للخطاب المتطرف الرافض للآخر.

الغد

أضف تعليقك