جسد المرأة وبدعة السفور والحجاب

بداية لا بد من الإشارة إلى أن الحجاب لم يقتصر وجوده على المجتمعات الإسلامية، فقد سبق وجوده الإسلام، ووردت القواعد الخاصة بحجاب النساء مفصلة في القانون الآشوري، من حيث تحديد النساء المفروض عليهنّ الحجاب، ومن لا يحق لهنّ الحجاب.

 

فكان الحجاب فرضًا على زوجات وبنات كل "سيد"، وكذلك بالنسبة إلى الجاريات المرافقات لسيداتهن، كما كان الحجاب مفروضًا على "الغواني المقدسات" بعد زواجهن. أما العاهرات والإماء، فقد كان الحجاب محرّمًا عليهن، والمرأة التي كان يقبض عليها، وهي مرتدية الحجاب بدون حق، كانت تخضع للعقاب بالجلد، وصبّ القار على رأسها، وقطع أذنيها. وتقدم جيردا ليرنر تحليلًا مفصلًا لهذه القوانين في دراستها، التي ندين لها بما قدمته من رؤية توضح أن الحجاب لم يكن يستخدم فقط لتمييز الطبقات العليا، بل كانت وظيفته الأساسية هي التفرقة ما بين النساء "المحترمات"، والنساء المتاحات للعامة؛ أي إن استخدام الحجاب كان يؤدي دورًا في تصنيف النساء تبعًا لنشاطهن الجنسي، فكان ارتداؤه مؤشرًا للرجال من حيث تمييز النساء الواقعات تحت الحماية الذكورية عن غيرهن من المتاحات مشاعًا. ويقوم تحليل جيردا ليرنر بإلقاء الضوء أولًا على أن تقسيم النساء إلى نساء "محترمات"، ونساء "ذميمات" كان تقسيمًا شديد الأهمية في النظام الأبوي، وثانيًا يؤكد أن موقع النساء من التراتبية الطبقية كان يتحدد بناء على علاقتهن (أو انعدامها) بالرجال مصدر الحماية، وذلك على أساس نشاطهن الجنسي - لا على أساس نشاطهن المهني، وعلاقتهن بالإنتاج، مثلما هو الحال بالنسبة إلى الرجال.

 

أزعم أن الحجاب كان من الأمور اللامفكر فيها في كثير من المجتمعات، ولم يعبّر عن أيّة هوية دينية، أو سياسية، كما حدث فيما بعد

 

وكما أن القرآن لا يشير إلى أن حواء قد خلقت من ضلع آدم، بينما تؤكد كتب التراث الإسلامي، التي دونت في فترات لاحقة على الغزوات الإسلامية، على أن حواء قد خلقت من ضلع آدم؛ كذلك فإن ارتداء المرأة المسلمة للحجاب قد ظهر في ظروف مشابهة، عبر عملية استيعاب تلقائي لما لدى الشعوب الأخرى، حيث يبدو أن الحجاب كان مستخدمًا في المجتمع الساساني، كما كان الفصل ما بين الجنسين، واستخدام الحجاب شديد الوضوح في الشرق الأوسط المسيحي، وأقاليم البحر المتوسط أثناء نشأة الإسلام. ففي السنوات الأخيرة من حياة الرسول محمد، كانت زوجاته هن النساء المسلمات الوحيدات اللائي فرض عليهن الحجاب. وهكذا بعد وفاة محمد، ونتيجة للغزوات الإسلامية في المناطق المجاورة - حيث شاع ارتداء نساء الطبقات العليا للحجاب - أصبح الحجاب عنصرًا شائعًا في ملابس نساء الطبقة العليا، وذلك من خلال عملية استيعاب لتلك الثقافات، وهو جانب لم يلق القدر الكافي من البحث المحقق بعد[2].

ومن الجدير بالذكر أن اللباس بشكل عام، والحجاب بوصفه جزءًا من اللباس كان يخضع في الأصل، وكذا حاله في معظم بلدان العالم، للطبيعة المناخية لهذه البلدان، فيُحجب الجسد ويكشف تبعًا لتقلبات الحرارة والبرودة، وأشكاله وأنواعه ترتبط بموارد كل بلد، ليصبح اللباس جزءًا من ثقافة هذا البلد وتراثه. ولكن هذا الأمر قد تغير في المجتمعات الإسلامية وغير الإسلامية، حينما جعلت من الحجاب قيمة تعبّر عن الهويّة، ولم تعد تربطه بالبيئة التي يعيش فيها الإنسان، والتقلبات المناخية. ودفعت المرأة ثمن هذه التصورات الذكورية التي فرضت الحجاب على المرأة من أجل حماية الرجل، وبدل تحصين الرجل، وبنائه من الداخل بشكل صحيح، حتى لا يقع في الفتنة والإغواء، راح يفرض قوانينه وشروطه على المرأة، يحجبها، ويعريها بحسب ما تقتضيه مصالحه، جاعلًا منها عورة تارة يجب سترها؛ فالمرأة كلها عورة، موهمًا إياها بأنّها مثار للفتنة، وتارة أخرى يجعل حريتها مرتبطة بمقدار تعرّيها، فيحصر مفهوم الحرية بالكامل في نطاق الجسد، وبهذا "تكون الثقافة الذكورية قد احتكرت تصورًا خاصًا للمرأة، وجعلت من جسدها سلعة استهلاكية، ولم يقتصر الأمر على جعله مادة يُتلاعب بها عبر ثنائية الاحتجاب والكشف والعرض والطلب، إنما أسهمت حركات تحرير المرأة بالإعلاء الهوسي من قضية الجسد على أنه برهان الحرية الوحيد".

 

إن إلقاء نظرة سريعة وأخذ عينات عشوائية لملابس النساء وأزيائهن ستكشف بسهولة الاختلاف بين ملابس النساء من بلد إلى آخر ومن مكان إلى آخر ومن ريف إلى مدينة، ومن بيئة إلى أخرى؛ فالنساء اللواتي ينتمين إلى الأرياف يغطين أجسادهن عادة بملابس تنتمي إلى البيئة الريفية بألوانها الزاهية التي تتماهى مع ألوان الطبيعة، وبنوعيتها التي تتغير بحسب فصول السنة بين برد قارس في الشتاء، وحر في فصل الصيف، وجو معتدل في فصلي الربيع والخريف، وتكون الوجوه مكشوفة تعانق ضوء الشمس، وتتنسم الهواء العليل، ويوضع غطاء للرأس، بدون أن تحفل النساء بتغطية كامل الشعر، فقد تطيش خصلة شعر من هنا أو هناك، بدون أن يكون لذلك كبير أهمية، كما أن الطريقة التي تعقده بها حول رقبتها من الممكن أن تكشف عن جزء من العنق، ومن الممكن أن ترفع المرأة هذا الغطاء بالكامل، لتعيد تعديله أمام الملأ، من غير أن ينتبه لذلك أحد، أو يرى أنها كشفت عن مفاتنها، أو أن يُعاب عليها فعلها، أو أن تتربص بها عين الرقيب.

وأزعم أن الحجاب كان من الأمور اللامفكر فيها في كثير من المجتمعات، ولم يعبّر عن أيّة هوية دينية، أو سياسية، كما حدث فيما بعد، إذ عملت النساء إلى جانب الرجال في الحقول، ولم يشكل الحجاب عائقًا أمام المرأة، ليجعلها حبيسة البيت، وتلقت الفتيات التعليم إلى جانب الأولاد في المدارس المختلطة، ولم يحل غطاء الرأس من تعلمهن. وكان من الطبيعي أن ترى امرأة تخرج ثديها لترضع طفلها الذي انفجر بالبكاء فجأة في الحقل، أو في السوق، أو في الحافلة، بدون أن يسترعي المشهد انتباه أحد، وهو يرى أكثر جزء من جسد المرأة إيروسية. وإلى ذلك، فإن النظر إلى جسد المرأة على أنه مثار فتنة، ويجب تغطيته، وحجبه، حتى لا يغوي الرجال، أو تعريته، حتى يثيرهم، لم تكن واردة؛ ولذا لم تكن النساء قديما تبالغ في الزينة، واستعراض جمالهن وفتنتهن، كما هو سائد اليوم، ولم تكن مساحيق التجميل، وأدوات الزينة تغزو الأسواق ويروج لها في كل مكان، وكانت النساء والفتيات تكتفي باستخدام المستحضرات الطبيعية البدائية كالحناء وكحل الإثمد والزيوت الطبيعية.

لم يستمر الوضع السابق ببراءته، ونقائه على حاله، وعصفت به الأهواء السياسية التي كان لها الدور الأكبر في إضفاء المعنى الخاص على الحجاب، باعتباره هويّة دينية. ففي الوقت الذي ارتدت فيه الفتيات الحجاب تقليدًا لأمهاتن، وجداتهن، بدون أن يولينه كبير عناية، وبدون أن يعوق حريتهن، وحركتهن، وتعليمهن وسط مدارس مختلطة، صدر قانون منع الحجاب في بعض البلدان التي أرادت أن تعلن عن هويتها العلمانية في مقابل الهويّة الإسلامية، وشُنّت حملة شعواء ضد الحجاب، لأسباب سياسية كما حدث في تركية زمن أتاتورك، وفي إيران زمن الشاه، وفي بعض البلدان العربية، مثل تونس زمن زين العابدين بن علي.

 

إن وضع المرأة، وقضية الحجاب في الشرق الأوسط، قد خضعت لمفاهيم قيمية تركز على المظهر أكثر من تركيزها على الجوهر.

 

وكان لا بد من أن تظهر دعوات مضادة، وأن يقود التطرف، والاستبداد إلى ما يقابله، فنشطت الحركات الدينية التي خلعت على الحجاب معنى مخصوصًا، وجعلته معبّرًا عن الهويّة الإسلامية، وتطرفت في فرضه، وقاد هذا التطرف إلى ما قاد إليه التطرف السابق من دفع النساء للثمن أيضًا، فمع انتصار الثورة الإسلامية زمن الخميني في إيران فُرض الجادور على النساء جميعا وحتى الطفلات منهن، وانشغل حماة الأخلاق بتتبع خصلة شعر طائشة لامرأة هنا أو هناك، وتعرضت الفتيات لعمليات التفتيش قبل دخولهن إلى الجامعة، وظهرت مطالبات بالفصل بين الجنسين، والأمر نفسه حدث في بعض البلدان العربية التي نشطت فيها الحركات الدينية المتطرفة، ففرض الحجاب والنقاب على النساء، وصار الفصل بين الجنسين أمرا واقعا في بعض البلدان حتى يومنا الحالي كما في دول الخليج العربي.

 

إن وضع المرأة، وقضية الحجاب في الشرق الأوسط، قد خضعت لمفاهيم قيمية تركز على المظهر أكثر من تركيزها على الجوهر؛ إذ نظر إلى الحجاب على أنه تعبير عن الهويّة الإسلامية، ولا سيما في المجتمعات العربية. ولكن هذا التعبير جاء سطحيًا لا يعمق الهويّة الإسلامية في جوهرها؛ لأنه يعتقد أنه بحجب الجسد الظاهري يصونه ويحميه، بيد أن الحجب إن لم يكن داخليًا ونابعًا من أعماق المرأة التي تريد صون ذاتها، فإن كل الحجب التي ضربت حولها لن تحول دون خرقها لها، وتحقيق رغباتها. ولذلك برزت التناقضات التي تعيشها المرأة التي فرض عليها الحجاب بوصفه هويّة، بينما لم تتأصل هذه الفكرة في داخلها، وهذا يفسر لنا الكثير من المظاهر التي تبدو شاذة أو متناقضة.

إن حال الحجاب في الشرق الأوسط يشبه حال هذه المجتمعات في تعاطيها مع الدين عمومًا، إذ نرى مظاهر دينية تملأ هذا العالم، المساجد والكنائس، والمعابد، لكننا لا نرى مؤمنين حقيقيين. هناك مظاهر دينية ولا وجود للدين. وبهذا المعنى، يصبح وجود الحجاب وعدمه سواء؛ لأنه لا يحقق وظيفته، ويبقى أمرًا شكليا تفرضه العادات والتقاليد والأعراف، ولا يغادر الشكل الخارجي إلى القيم الجوهرية لمعنى الحجاب. ولعل حركات التحرر في العالم كانت تدرك هذه الحقيقة، ورائدات حركات التحرر، وروادها في العالم العربي أيضًا، حينما دعوا إلى نزع الحجاب لم يكن يقصد بذلك الحجاب الظاهري، بل كان المقصود الحجاب المعنوي.

*مؤمنون بلاد حدود

أضف تعليقك