أندلسيون ولكن !

بكى أبو عبدالله الصغير ، وتوالت جموع الأندلسيين تاركة غرناطة ، المعقل العربي الأخير في إسبانيا ، وفي قلوبهم وعقولهم صورة أخيرة لما كان يسمى لألف عام سابقة بالأندلس .

 

الأندلس كمفردة تحمل رمزية هائلة في الوعي العربي ، وتؤسس لإمتداد طويل من المأساة في الضمير المغاربي خصوصا والعربي عموما ، إذ لم تكد تنطوي صفحة الأندلس السياسية بسقوط غرناطة حتى بدات بعد ذلك معاناة الموريسكيين وهو الإسم الإسباني للأندلسيين  أو كما درج الإسبان عادة على تسميتهم بالمدجنين .

 

الأندلس كمفردة تحمل رمزية هائلة في الوعي العربي ، وتؤسس لإمتداد طويل من المأساة في الضمير المغاربي خصوصا والعربي عموما

لم يلتزم الإسبان بالمعاهدة السياسية التي تضمن حقوق الأندلسيين بعد سقوط مملكتهم الأخيرة ، بل على العكس تماما ، قاموا بكل ممارسة ممكنة خلاف تلك المعاهدة ، وأقاموا بعد ذلك محاكم تفتيش كنسية وسياسية وثقافية ، تعتمد في نزعتها على تطهير إسبانيا من كل ما لا ينتمي لها ، فالكاثوليكية  و القشتالية و الملكية الإسبانية شكلوا معا إسبانيا الإسترداد ، والمقاومة التاريخية الشرسة للوجود العربي في أوروبا ، فكان من الطبيعي أن تمارس إسبانيا المنتصرة ، فعلا تاريخيا عنيفا تجاه المغلوبين ، خاصة وأن هؤلاء المغلوبين جثموا على صدرها قرونا ثمانية ، مارسوا فيها كل أنواع الهزيمة لإسبانيا ، وعلى المستويات كافة . 

 

وجد الأندلسيون أنفسهم في مواجهة قاسية مع نظام إقصائي ، لا يقبل حتى حرفا واحدا ينسل من لسان أحدهم ، فمحاكم التفتيش كما أسلفنا كانت عازمة على تطهير إسبانيا تماما ، من كل ذاكرة متعلقة بهؤلاء العرب ، وإن كانت الثقافة الدينية تستند أساسا إلى عامل اللغة العربية ، فكان لزاما على الكنيسة أن تنشئ مذبحة لغوية مرعبة لهؤلاء ، فقد أصدر ملوك إسبانيا قرارات تجرم إستخدام العربية ، والنطق بها والكتابة بها ، ورتبت على ذلك أحكاما بالإعدام والقتل ، بل تعدى الأمر إلى إحراق الكتب العربية أينما وجدت بغض النظر عن قيمتها العلمية ، وهذه كلها إشارات لما واجهه الأندلسيون بعد سقوط معقلهم السياسي الأخير . 

 

كان من الطبيعي أن تمارس إسبانيا المنتصرة ، فعلا تاريخيا عنيفا تجاه المغلوبين ، خاصة وأن هؤلاء المغلوبين جثموا على صدرها قرونا ثمانية

 

كانت السلطات الإسبانية قد مارست  اضطهادا ممنهجا تجاه الأندلسيين وكانت محاكم التفتيش التي ضغطت على المسلمين للتخلي عن دينهم، واعتناق المسيحية، والتحدث بالقشتالية دون العربية، وغيرها من الإجراءات التي تهدف إلى طمس الهوية الإسلامية الأندلسية واستبدالها بالهوية المسيحية الإسبانية، فخُير العربي  عام 1501 بين التحول للمسيحية أو الطرد والنفي خارج أرض الوطن، وأصدر فيليب الثاني ملك إسبانيا أمرا ملكيا في عام 1567، يجبر الموريسكيين “المسلمون الذين بقوا في إسبانيا” على ترك استخدام اللغة العربية في جميع المناسبات، والأحوال الرسمية وغير الرسمية، كلاما وكتابة، حيث اعتبر استخدام العربية جريمة، وأعطى الموريسكيين  مهلة ثلاث سنوات لتعلم اللغة الإسبانية، بعدها تم التخلص من كل المواد المكتوبة باللغة العربية.

 

 

أصدر فيليب الثاني ملك إسبانيا أمرا ملكيا في عام 1567، يجبر الموريسكيين “المسلمون الذين بقوا في إسبانيا” على ترك استخدام اللغة العربية.

 

الألخميادو أو العجمية الأندلسية كانت مظهرا من مظاهر المقاومة العربية لهذه النقمة الإسبانية ، فالعجمية الأندلسية هي ( إسبانية بحروف عربية ) ، وقد حاول أبناء الموريسكيين الحفاظ على حد أدنى من ثقافتهم القديمة ، للحفاظ على الصلة بأجدادهم وثقافتهم ، وهم وجدوا ذلك كافيا ربما ، ومرضيا للسلطة الجديدة ، فهم من جهة لا يزالون يحافظون على شعائر ثقافتهم ومن جهة أخرى اعتنقوا لغة السلطة الجديدة ، إلا أن الأمر كان عرضة للسخط السياسي ، وواجه مقاومة عنيفة على المستوى السياسي ، فكما أسلفنا لم تكن إسبانيا مستعد للمفاوضة فيما يتعلق بهذا التطهير . 

 

الأندلسيون  حاولوا ممارسة دينهم خفية وبعيدا عن أعين الرقيب ، لذلك حاولوا مقابلة القشتالية بحروف عربية ، وقاموا بتأسيس هذه اللغة الهجينة للحفاظ على شعائرهم الدينية ، فوعيهم بشراسة الحملة ضدهم وضد أبنائهم الذي لم يعرفوا العربية ولا الإسلام بسبب مدراس التنصير ومحاكم التفتيش ، جعلتهم يبتكرون الألخميادو ، فأبناؤهم الآن يجيدون القشتالية ، والعربية بطبيعة الحال ، لذلك قرروا تهجين اللغتين ، وتدوين الآداب العربية والتقاليد الدينية ما عدا القرآن بهذه اللغة  . 

 

إن دراسة هذه الظاهرة الفريدة من نوعها ، يكرس لدينا مفهوما عميقا عن المقاومة ، وعن قدرة الإنسان خاصة إذا تعلق الأمر بدفاعه عن ذاته وهويته ، وهي حلقة فريدة من حلقات المقاومة الإنسانية على مر العصور ، لتسلط السياسة العنيفة على قيم الناس وحرياتهم ، ولعل مقاومة الأندلسيين الملهمة ، ألهبت بعد ذلك شعور الإسبان في مقاومة الفرنسيين وحروبهم النابليونية ، ومقاومة الاستبداد الجمهوري فيما بعد . 

 

إن دراسة هذه الظاهرة الفريدة من نوعها ، يكرس لدينا مفهوما عميقا عن المقاومة ، وعن قدرة الإنسان خاصة إذا تعلق الأمر بدفاعه عن ذاته وهويته

 

الذي يبحث التاريخ الإسباني يرى بعد ذلك كيف أن ثورة الأندلسيين في مدينة قادس ومقاومتهم العنيفة ضد الغزو الفرنسي ، وانتصارهم عليهم في معركة ( بايلن ) ليقود الأندلسيون بعدها حركة جديدة في تاريخ إسبانيا سميت فيما بعد ( دستور قادس ) والذي اعترف لأول مرة بالشعب الأندلسي كجزء أصيل وعريق في إسبانيا ، وأتاح هذا الدستور الحرية لكل الشعوب المضطهدة باسم التاج الإسباني . 

إذن لم تنته مقاومة الموريسكيين ، ولم تنته حكايتهم في إسبانيا ، فهم الذي أعطوا لإسبانيا وجهها السياسي إلى اليوم ، وقبل ذلك زودوها بحضارة عظيمة ، أسست فيما بعد لأكبر إمبراطورية بحرية في العالم الجديد . 

 

شـــاهد  :

سلسة سقوط الأندلس – إنتاج قناة الجزيرة الوثائقية

 

* موقع عربي 360

أضف تعليقك