الملكة الناعمة

تنحدر الملكة الأردنية من أصول فلسطينية، وتنطوي على ثقافة أكاديمية مرتفعة وتستند إلى تكوين شخصيٍّ قوي، ومميزات أخرى قد تؤسس لما قد نسميه إمرأة قوية ومستقلة.

 

في مجتمع يستند إلى القبلية كعاملٍ أساس في بناء توازناته وتحالفاته، ومحاصصة النفوذ علنا وفي الخفاء، وما يكرّسه ذلك من ثقافة هيمنة الرجل، كونه الضامن الجيني لإستمرار قبيلت ، تظهر المرأة القوية كتهديد علني وصريح يهدد المكانة (الذكورية) في أساسات المجتمع، ويتم التعامل مع المرأة القوية كتحدٍّ يحب تجاوزه والتعامل معه بكل طريقة ممكنة، وإن كان أخفاها هو إتهامها إنطلاقا من شعور حاد بالنقص النفسي، ومدفوعا بمحاولات تبرير التفوق الأنثوي من خلال انتقاصه أو الهجوم عليه أو التشهير به.

 

في الشرق عادة ما تكون المرأة محل نزاع في حالة وجودها الطبيعي، ودون أي فعل مؤثر منها ، فلباسها وثقافتها ومعتقداتها ومساهماتها تخضع بشكل قوي للوضع الفكري والنفسي والبدني للرجل، وبناء التصور حولها  يتم بشكل متكرر ومتوارث من خلال تأكيد أفضلية الرجل وتفوقه، وفي كل مجال وصولا إلى الوعي الجمعي لدى المجتمع، لذلك تواطىء الناس على نسب الفضائل مجتمعة إلى الرجال وعزو النقائص مجتمعة إلى النساء ، فالمرأة القوية (أخت رجال) والرجل الضعيف كالنساء ، ويبدو هذا التعامل معضلة حقيقة وجينية في العقل العربي ، وعنصري إلى الغاية على هذا الصعيد.

 

تظهر المرأة القوية كتهديد علني وصريح يهدد المكانة  الذكورية  في أساسات المجتمع، ويتم التعامل مع المرأة القوية كتحدٍّ يحب تجاوزه والتعامل معه بكل طريقة ممكنة.

 

الثورة لها ملمس ناعم  كالحرير في حالة النساء، إلا أن لها طعما مرا يتذوقه الرجال دون غيرهم، فالتأكيد التاريخي على هيمنة الرجال لا يستند إلا لبعض التفاعلات والسرديات المتوارثة، فالدين – ضمنا – يكرس هيمنة الرجال من خلال نصوص معينة، والعادات تنسج أساطير تفوق جنسية  حول الرجل وتصوره كإله، والتركيبة الإجتماعية تعزز مفهوم تأخر النساء خطوة إلى الوراء عادة في مواجهة الرجال، وهذا عادة يجعل إمرأة قوية في مركز التناقضات والتعقيدات مواجهة كما هائلا من الإتهام والتزييف والتهميش.

 

 

يذكر أن الحسين قال مرة”إنها مهنة صعبة أن تكون ملكا في الشرق“، هذه الجملة صادمة وقوية ومرة، فالذي يبحث الحسين ويتناوله كموضوع دراسة يدرك كم كان الرجل قويا وجبارا، وأنه ينتمي تماما إلى طينةٍ فريدة، سواء اختلفت او اتفقت معه.

 

الثورة لها ملمس ناعم  كالحرير في حالة النساء، إلا أن لها طعما مرا يتذوقه الرجال دون غيرهم، فالتأكيد التاريخي على هيمنة الرجال لا يستند إلا لبعض التفاعلات والسرديات المتوارثة.

 

هذا يدفعنا إلى التساؤل استنادا للمعطيات الإجتماعية والسياسية؛ إذا كان الرجل وهو هنا الحسين بكل تلك السطوة الشخصية والكاريزما الإجتماعية والقوة الظاهرة والمُلكِ المكتسب والعميق، مع ما للنسب الشريف من فعلٍ في نفوس العامة، عانى من مهنتهِ كملكٍ في الشرق، فكيف سيبدو الأمر بالنسبة للمرأة وهي هنا رانيا! 

 

الرسالة الملكية أظهرت جانبا كنا نظنه خافتا بعض الشيء في الشخصية الملكية، فمظهر القوة اللازم لاستقرار الدولة يمنع الملوك عادة من إظهار أي ميل للرقة والعاطفة، وهو الذي كان مفاجئا لنا في حالة الملكة الأردنية.

 

 

الرسالة كانت تحمل عتابا رقيقا، وتنشر عاطفة لا يتوقعها المحكوم  في الحاكم، فالسلطة تعني القدرة على إيقاع العقوبة، والتنفّذ في مواجهة المخالفين، الأمر الذي لم نلحظه ضمنا حتى في رسالة الملكة، وكأن الامر كان كلاما بسيطا توجهه امرأة هادئة لمجتمع هادىء.

 

الصبر الأنثوي كان متجليَّا في الرسالة تماما، والأمر هنا بعيد عن كونها الملكة، ولا يتعدى كونها المرأة القوية، تلك التي تخوض صراع القدرة والمكانة وسط كل تلك التوازنات في المجتمع الشرقي، والمجتمع الأردني خاصة نموذج حي وبالغ فيما يتعلق بشرقية الثقافة والعقلية، والمرأة الشرقية القوية تريد بالفعل أن تحقق تلك الإستجابة المجتمعية لإنجازها دون أن يكون لتلك الإستجابة أي أضرار جانبية تتعلق بمكانتها وصياغتها الإجتماعية.

 

إن الهجوم الشخصي الذي تتعرض له امرأة قوية، والمحاولات المتكررة لإسقاط فعاليتها والتقليل من شأن أعمالها وإنجازاتها يعود بشكل متكرر إلى عقد مخزونة في الوعي الذكوري الشرقي، ونركز هنا على الذكورة كمصطلح لوصف العقد، بسبب أن الذكورة عامل أساسي وحاسم فيما يتعلق بصياغة قواعد التعامل في المجتمع الشرقي، وإحدى أهم وأكبر هذه العقد، عقدة السلطة ونقص القدرة وإستيعاب العنف بشكل مطول، مما يسبب نوعا من ردة الفعل العنيفة التي قد يمارسها المجتمع تجاه الأشخاص الأقوياء والناجحين، وقد تبدو هذه المقاومة العنيفة فظة حينما يتعلق الأمر بامرأة ما، خاصة إن كانت هذه المرأة تعبّر عن سلطة كاسحة لتلك المقاومة، مما يؤدي لظهور أنواع من الإتهامات والتبخيسات تجاه المرأة، مع نقص القدرة على أذيتها بشكل مادي، وهنا إذا قمنا بإستجلاب مثال الملكة رانيا، فالأذية المادية محض خيال، مما يحذو بالكثير من هؤلاء للتعبير عن أذيتهم بشكل معنوي.

نحن اعتدنا على التقليل من فداحة نقائصنا من خلال تعظيم نقائص المقابل لنا، وكأن المجتمع يقتات في سبيل إستمراريته على وجع الآخرين، وهنا أود أن أشير إلى نقطة مهمة، الذي نمارسه هنا ليس دفاعا عن الملكة وليس محاولة وصولية ما، بل هو محاولة لفهم ما قد يمارسه المجتمع ضد فرد من أفراده، ومع كل هذا الوعي الذي نحاوله هنا، نكرر فنقول، من قال إن الملكة كائن لا يخطئ ؟ لا أحد، بالضرورة أن الجميع معرض للخطأ، ومحاولة تبرير أخطائنا من خلال التركيز على أخطاء غيرنا، لا تعبر إلا عن عقد نفسية خطيرة، وهذا لعله يبدو واضحا في حالة الملكة وأولئك المسيئين لها.

 

نحن اعتدنا على التقليل من فداحة نقائصنا من خلال تعظيم نقائص المقابل لنا، وكأن المجتمع يقتات في سبيل إستمراريته على وجع الآخرين.

 

الغوص في التحليل أكثر قد يخرج بنا عن السياق، والذي أود قوله هنا، أن موجة هادئة وواعية قد بدأتها الملكة وحقنت بها المجتمع، فالعتاب الظاهر في الرسالة الملكية يفتح الباب على مصراعيه لبدء عملية مراجعة عميقة لأساليبنا في إنتقاد ذواتنا ومجتمعاتنا، فالإنتقاد لأجل البناء والتعمير حالة صحية يمارسها الأسوياء في سبيل إعادة خلق وضع جيد ومستقيم، دون الحاجة إلى عمليات الهدم والتكسير، والتي عادة لا تصب في صالح المجتمع، وهي حقيقة تعبر عن حصيلة عنفية متراكمة في جينات المجتمع الشرقي، والتي لا نريد لها أن تظهر الآن وقد لا نريدها حتى بعد ألف عام.

بالنشر بالتعاون مع موقع عربي360

أضف تعليقك