هل يقرأ كُتّاب اليوم؟

الانطباع الأوّل الذي تتركه قراءة سيرة تشارلز سيميك (1938 - 2023)، "ذبابة في الحساء"، هو أنّ الشاعر الأميركي (صربيّ الأصل)، والذي يُعدّ من أبرز شعراء قصيدة النثر المعاصرين في الولايات المتّحدة والعالم، كان قارئاً قبل أيّ شيء.

يصف لنا سيميك كيف كانت كُتب والده الكثيرة مكدّسة في كلّ مكان، حتى على رفوف غرفته، وكيف وجد نفسه يقرأ ديكنز وزولا وحتى دوستويفسكي بعد وقت قصير من تعلُّمه القراءة، ليصبح في سنّ العاشرة "مغرماً فعلاً بالكتب"، كما يقول. يتابع الشاعر معقّباً على تلك المرحلة، ومؤكّداً هويته كقارئ حقيقي تُشكّل القراءة له احتياجاً وضرورة دائمة: "لم يغادرني أبداً هذا الاحتياج للقراءة. ما زلتُ أقرأ كلّ أنواع الكتب في مختَلَف الموضوعات. ربما لذلك أعرف القليل عن أشياء عديدة عظيمة".

ويكمل: "يُمكنني أن أحيا وأموت في مكتبة قيّمة، مع أنّي لست ممّن يحترمون التعليم الرفيع. إنّني أرتاب في التحذلق الذي يحتوي عليه هذا النوع من التعليم. مع ذلك، يبدو عجيباً وجود شخص لا يريد أن يعرف ما الذي في داخل كلّ كتاب في هذا العالَم".

جرى استسهال الكتابة، مثل كلّ شيء في عصرنا

أن يكون الكاتب قارئاً، ربما يبدو الأمر بديهياً، لا يستحقّ التوقّف عنده. إنّما من يتأمّل اليوم قليلاً في مشهدنا الثقافي العربي، سيبدو له سريعاً أنّ كثيراً من البديهيات تتبدّل بشكل واضح، وأنّ عدد الكتّاب المتزايد: صفحات شخصية، ومدوّنات، ومواقع ثقافية، ودُور نشر بالمئات، يدفعنا إلى التساؤل الذي طرحه الناقد الفرنسي أنطوان كومبانيون في محاضرة له، ألقاها عام 2019 في "الأكاديمية المغربية" بالرباط، تحدّث فيها عن هذا التبدّل العميق الذي يُصيب القراءة في عصرنا قائلاً: "إنّ الكتّاب كانوا قرّاءً كباراً يقرأون كلّ ما يُمكنهم قراءته، لأنّ المبدعين الحقيقيّين هم القرّاء الحقيقيون و'القراءة أساس الكتابة'"، طارحاً السؤال الأهمّ: "فهل يقرأ كُتّاب اليوم مثل سابقيهم؟".

لا يُجيب كومبانيون عن السؤال بشكل مباشر. لكنّه يقول، في سياق آخر، في المحاضرة نفسها: "ما يحدث في الأدب ليس بعيداً عمّا يحدث في المجتمع". وهذا يُحيلنا لتأمّل العصر الذي نعيش فيه، والذي وصفه أمين معلوف: "إنّنا نعيش في عصر مُدهش يستطيع فيه أي إنسان يملك فكرة سواء كانت عبقرية، فاسدة، أو سطحية، أن ينقلها خلال النهار إلى عشرات الملايين من البشر!". هذه السهولة في التواصل، التي يجب وضعها أيضاً في سياق وسائل التواصل الاجتماعي وحُمّى التفاعل والمتابعين، لا بدّ أن تنعكس أيضاً على المجال الأدبي.

في إحدى محاضراته الشهيرة عن الشعر في "جامعة هارفرد" (جُمعت في كتاب بعنوان "صنعة الشعر")، يُعرّف خورخي لويس بورخيس نفسه كقارئ قبل أيّ شيء، قائلاً: "أنا قارئ بالأساس، وقد تجرّأت كما تعلمون على الكتابة. لأنّ المرء يقرأ ما يريده، لكنّه لا يكتب ما يريده، بل ما يستطيعه".

بورخيس، الذي تخيَّل العالَم بعد الموت على شكل مكتبة، يستخدم فعل "تجرّأ" لوصف عملية الإقدام على الكتابة، وخلف هذه الصيغة هناك الكثير من النُّبل الذي على الإنسان أن يستجمعه ويُمارسه حين يُقدم على أيّ فعل إبداعي، لأنّ المبدع، والكاتب خصوصاً، مرهف وهشّ، لديه حاجة تدفعه نحو الكتابة كتيّار، إنّما لديه أيضاً هواجسه الجمالية الخاصّة، وهو معنيٌّ بالاشتغال على مادّته وبتلميعها وبِصقلها وبتقديم شيء جديد ومختلف وبعيد عن الابتذال، أكثر ممّا يعنيه التفاعل الذي ستلقاه هذه المادّة من قارئ مفترَض.

تبدو الكتابةُ اليوم أمراً سهلاً والقراءةُ أمراً ثانوياً

إذا تأمّلنا هذه الصيغة التي تربط الكتابة بالجرأة، والفعل الإبداعي بالهاجس الجمالي الخاص، في سياق ما يحدث اليوم على وسائل التواصل الاجتماعي، سيبدو لنا بوضوح أيّ تغيّر عميق خلّفه هذا التبدّل الاجتماعي في مجال الكتابة.

لم يعد الكاتب اليوم مشغولاً بالجمال بشكل خاصّ، ولا بحاجته الذاتية للكتابة، وهو لا يحتاج إلى الجرأة ولا إلى تراكم مخزون غنيّ من القراءة يمكّنه من الإتيان بما هو جديد. الأمر يبدو سهلاً ككلّ شيء في عصرنا، وعُدّة الكتابة صارت تُختَصَر بألف أو ألفَين من المتابعين يتفاعلون مع الشخص، بعض النصوص المنشورة في مواقع ثقافية تقريبية، وأخيراً دار نشر من مئات دُور النشر التي تتكاثر سنوياً لتكرّسه كاتباً.

هذا السيناريو يقود الكثير من الكتّاب الشباب سريعاً إلى تلك العتمة التي سمّاها قاسم حدّاد "عتمة الثقة"، فيستمرّون بالكتابة، متجاهلين دَور القراءة الأساسي في تطوير لغتهم وأفكارهم ونتاجهم، منجرّين بلا هوادة إلى كلّ ما هو رديء ومُبتذل ومكرّر وعامّ.

يتساءل قاسم حداد في كتابه "الغزالة يوم الأحد": "كيف تريد أن تكتب وأنت لم تعد تقرأ، ولا تحسن الإصغاء، ولا تُحاول فكّ أبجدية المعرفة؟ القراءة زيت قنديلك، أيها القابع في عتمة الثقة". ولا أجد صفة أجمل من العتمة لربطها بالثقة حين يتعلّق الأمر بالإبداع، ولا أجمل من القراءة لدفع هذه العتمة عنّا، لأنّنا كلّما قرأنا، استشعرنا صغر حجمنا ووِسع العالَم، وكم أنّ وقتنا ضيّق لنحيط بكلّ هذه المعرفة، بكلّ هذه الأسرار التي يُولّد كلٌّ منها أسراراً أُخرى. 

لذا، فالمبدِع الحقيقي هو القارئ الحقيقي. وهو الذي لا يطأ عتمة الثقة أبداً. لأنه يطارد الجمال باستمرار، ويتطوّر باستمرار، ولا يشعر بالقناعة تجاه نتاجه إلّا نادراً.

نعود إلى تشارلز سيميك وهو يصف المخاض العسير الذي مرّ به قبل أن يصبح شاعراً، في نظر نفسه أوّلاً، شارحاً كيف أنّ ما كتبه من قصائد بين عامَي 1956 و1961 يفوق عدد ما كتبه في كلّ السنين بعد ذلك، وأنه سَعُد كثيراً يوم مزّق هذه القصائد جميعها لأنّها، باستثناء بعضها، كانت "سيئة" بحسب وصفه. يقول في مكان آخر: "رميتُ مئات من القصائد في حياتي (...) كتابة الشعر متعة لا يُضاهيها إلّا طمس كلّ ما هو مكتوب على الصفحة". ويذهب بعيداً في نقده الذاتي حين يصف حالات من الخرس والخيبة التي كانت تُصيبه حين يقرأ في الصباح قصائد كتبها في الليل معتقداً أنها رائعة، قائلاً: "وكنت أدرك بمنتهى الوضوح كلّ ما تصنّعتُه، وكلّ ما تأثّرت فيه بالآخرين، وكلّ تلك المباشرة الرديئة".

وطيلة الكِتَاب، يَظهر سيميك القارئُ أكثر من سيميك الشاعرُ: يقرأ، ويقلّد، ولا يرضى بما كتبه، فيطمسه ويعود إلى القراءة من جديد ثم يعاود محاولاته للكتابة... وهكذا، بلا شكّ، عبر قراءاته الكثيرة والمتنوّعة، وعبر هواجسه بأن يبتعد عن "تلك المباشرة الرديئة"، توصّل إلى تشكيل هويته الشعرية الخاصّة، ليُصبح أحد روّاد قصيدة النثر المعاصرين.

هذا المخاض هو المخاض الطبيعي لولادة كاتب أو شاعر، فالقفز فوق ممرّ القراءة الإجباري ليس مُمكناً، وحتى الموهبة العظيمة إن وُجِدَت لا تكفي وحدها في معظم الأحيان. كان أنسي الحاج يقول: "لستُ الماغوط، لا بدّ لي من القراءة لأكتب". وفي إحدى مقالاته المنشورة في كتابه "جنون آخر"، يقول ممدوح عدوان: "أعتقد أنّ الموهبة لا تشكّل إلّا جزءاً يسيراً من مستلزمات الكاتب. والباقي هو شغل ومراجعة واستذكار". ولا يسعني أن أُنهي هذا المقال من دون أن أذكر ربيع جابر، أحد أبرز الروائيّين المُعاصرين، والذي ارتبط اسمُه دوماً بكونه قارئاً خجولاً يختبئ من الضوء، بالكاد نعرف عن حياته الشخصية شيئاً، يقرأ ويكتب بلا ضجّة، وبهدوء لم يعُد موجوداً كثيراً في عالمنا، والذي قال في حوار له مع "موقع جائزة البوكر" بعد حصوله عليها عام 2012: "بالنسبة لي، القراءة، مثل الكتابة، هي وسيلتي الوحيدة لأتأكّد أنّني موجود".

هكذا، حتى وإن بدت الكتابةُ اليوم أمراً سهلاً والقراءةُ أمراً ثانوياً، حتى وإن تجاوز عددُ الكتّاب عددَ القرّاء، وحلّ مكانَ نُبل المبدعين الجميل هذه الأنا المتضخّمة والنظر إلى الكتابة كممرّ إلى شعبية زائفة، فالقراءة ستبقى أساس الكتابة وسابقة لها، وإلّا أُغرِقَت ذائقتُنا بكلّ ما هو مبتذل، وانحدرت الذائقة العامّة تدريجياً، وأخذت تدفع بما هو رديء إلى الضوء... وهذا تماماً ما هو حاصل اليوم.



* شاعرة لبنانية مُقيمة في فرنسا

أضف تعليقك