"السباحتان" نموذج من أفلام خاصمت الواقع السوري

خلقت المنصات الرقمية اليوم ثغرة ضمن عالم الإنتاج التقليدي، الذي استطاع الحفاظ على شكله وآليته نفسها لعقود، لتقدم وسيطاً جديداً بشروط إنتاج مختلفة، غيرت معها معالم الدراما العربية وشكلها وتسويقها، وكذلك السينما العربية حيث يتم ترجيح السوق الإنتاجية نحو السلعة الأكثر استهلاكاً. الدراما والأعمال المشتركة مشوهة الهوية التي تغدو كأجسام غريبة عن مجتمعاتها وبيئاتها، حيث تشكل مزاياها الخاصة وعالمها الخاص، أشبه بفردوس وهمي بني على واقع مفترض لا يمس الحقيقة بصلة.

قدمت نتفلكس فيلم "السباحتان" 2022، من إخراج المُخرجة المصرية البريطانية سالي الحسيني، لتدفق بعد عرضه آراء متفاوتة عن الفيلم ومضمونه. ينتشل فيلم "السباحتان" المأساة من سياقها وشكلها، كي يصبها في قالب جاهز مرهون بعقلية تسويقية تتحكم فيها منصات البث الرقمية وشركات الإنتاج، وتحكمها قيم مجتمعية بعيدة عن هوية هذه المأساة، ليصبح فيلم "السباحتان" بمثابة محاكاة مشوهة للواقع تعتمد على إثارة الشفقة ولمس عواطف مواطن العالم الأول، في قالب إنساني يعتمد على قصة بطولات ونجاحات فردية بعد تخطي الصعاب، ليقع الفيلم في خانة الأفلام الترفيهية ضمن حبكة كلاسيكية تعتمد التشويق والبساطة في آنٍ معاً.

يستعرض الفيلم قصة السباحتين مارديني، اللتين قامتا برحلة اللجوء من سوريا إلى أوروبا عبر اجتيازهما طريق تركيا ومن ثم قطع البحر وصولاً إلى جزيرة لسبوس اليونانية، لتتابعا رحلتهما سيراً نحو وجهتهما ألمانيا مجتازتين برفقة مئات غيرهما العديد من الانتهاكات والصعوبات. هذه الرحلة التي يقوم بها الآلاف، لا تزال مستمرة إلى اليوم في ظل إهمال دولي وانتهاكات متوالية تطال من يقوم بها، وتحرك عالمي باتجاه رفض اللجوء وإعادة اللاجئين إلى بلدانهم الأصلية، بالإضافة إلى أنّ هذه الرحل حملت معها كماً جديد من المآسي لنسمع بعناوين مثل "قوارب الموت" التي حصدت العديد من الأرواح في رحلاتها، ومراكز الاعتقال التعسفي في اليونان وصربيا، أو مخيمات اللجوء في بلدان أوروبا.

وعلى الرغم من أهمية القضية، التي يحاول الفيلم معالجتها إنسانيا وسياسيا، فإنه كان من الممكن التطرق لها عبر العديد من الطرق، كدراسة بسيطة حول ماهية اللجوء وماهية السفر في البحر الممتد منذ القدم مع رحلات الاكتشاف والهرب من الحروب، أو حتى التطرق إلى نقاش فكرة وضع اللاجئ كإنسان في مجتمع جديد وعواقب الحرب النفسية عليه، وهذا ما نستطيع لمسه في الفروقات بين الأختين، فمن اختارت طريق متابعة حياتها والنجاح في رياضة السباحة وهو هدفها في الحياة، وبين الأخت الأخرى التي قررت مساعدة اللاجئين في الجزر اليونانية لتُوصم وتُتهم بالإجرام ضمن القانون الأوربي الإنساني، وهذا ما غيبه الفيلم بشكل كلي.

بشكل سطحي تسويقي بالدرجة الأولى، عالج الفيلم القضية، حيث لا يمكن اعتبار أنّ الفيلم سوريّ، ففي جزئية استعراض سوريا ما قبل الثورة والحرب أو سوريا ما بعد الحرب، عُرضت هذه الجزئية بشكل يسطح من أهمية ما حدث، وكأن الفيلم مغيب عن الواقع. بالطبع ليس على الفيلم نقل الواقع بكافة تفاصيله المعقدة، ولا حتى مسؤوليته التعليم والتعريف بمَا حدث ولماذا حدث، ولكن من مسؤولياته عدم تشويه الواقع على الأقل، فهو ينادي بهدف إنساني يحمل قضية لا تزال حملات المناصرة تجاهها مستمرة وفي أوجها.

أراد صناع الفيلم تناول القضية من الجانب الإنساني الترفيهي فقط، لتكون القضية الأساسية، قضية الثورة، والسُلطة والصراع، مجرد عنصر إضافي للتشويق لا أكثر.

قام طاقم العمل بتفريغ القصة من سياقها الجمعي، لتصبح مادة استهلاكية عاطفية ومسلية للجمهور العالمي، حيث إن الهدف الأساسي لهذا النمط الإنتاجي خلق قصة تحدي بنهاية سعيدة، نهاية تحمل معها أملاً وكانت النهاية تعبيراً عن الخلاص الأوروبي والجنة الأوروبية المنتظرة التي تحتضن كل من يطلبها، يتحول الفيلم إلى أشبه بمادة دعائية ترويجية تقوم بالتعاطي مع المضمون الإنساني عبر نهج يستخدم قصص الضحايا كمادة خام لتقديم صورة دعائية لعالم أوروبي مسالم يحضن أي غريب.

من أجل صناعة نهاية سعيدة ونقل الخطاب الأوروبي، كان لا بد من التهميش والتسطيح وسلب سياق القضية ذاتها، لهذا لم يكن القائمون على العمل معنيين بالبحث عن نص سوري أو ممثلين سوريين، ولم يكونوا بحاجة إلى لغة عربية، فنحن نشاهد الأختين تتحدثان الإنكليزية في دمشق ما قبل الثورة، وتنقَلانها معهما إلى الخارج بالإضافة لبعض الجمل العربية التي حاولت مقاربة اللهجة السورية، حيث كانت بطلتا الفيلم ممثلتين لبنانيتين برفقة ممثلين مصريين وغيرهم من حاملي الجنسيات العربية، وكانت اللغة الإنكليزية الوسيط الأسهل، ليعبر الفيلم بشكل واضح ومباشر على ماهية الجمهور المستهدف لديه.

هو فيلم ليس للسوريين لكنه يحكي عنهم بالصورة التي تريح الرأي العالمي وتخلق تعاطفاً مبتذلا مثيراً للشفقة مع القضايا التي لا تزال مستمرة لليوم. إذ تمتلك قصة الأختين مارديني أسباباً درامية تجعلها مادة خاما لأشكال الإنتاج الحديثة، الأشكال التي تعتمد الاستهلاكية بالدرجة الأولى ومحاكاة التوجه العالمي العابر للحدود، حيث انعدمت الحساسية تجاه عناصر القصة وسياقها الدرامي وغيّب الوعي السياسي بشكل كامل، كمحاولة للتركيز على الجانب الإنساني بشكل مُسلّع، يغلبه الشفقة وتصوير أوروبا كخلاص ومنقذ لمواطني العالم الثالث.

قطيعة بالمضمون

لم يكن "السباحتان" أول فيلم يعرض على "نتفلكس" عن سوريا واللاجئين، إذ سبقه عام 2017 فيلم "في سوريا" بإخراج المخرج البلجيكي فيليب فان لوي، ومن إنتاج بلجيكي لبناني فرنسي مشترك، وعلى غرار "السباحتان"، فقد كان طاقم العمل عربياً مشتركاً، وعرض الفيلم قصة عائلة سورية محاصرة في منطقة اشتباك، عائلة أم يزن، عائلة من الطبقة الوسطى، تحاول النجاة من الحرب متمسكة بمنزلها ولن تغادره، الفيلم يقتنص لحظات مهمة من حياة عائلة في الحصار وسط الاشتباك، ولكنه يزيح السياسي والاجتماعي ليضع القصة الإنسانية في الأولوية.. قصة تثير التعاطف وكأن هذه العائلة وهذا الوضع نستطيع اقتصاصه من سياقه ونضعه في أي مكان تندلع فيه الحرب.

تتنوع الإنتاجات السينمائية التي تحاول محاكاة الوضع السوري ولكن يطغى عليها الانفصال عن الواقع، ويغدو الشرخ هذا أوضح مع كل إنتاج جديد، فحتى بعض الأفلام المستقلة التي قدمها سوريون غابت عنها حميمية التفاصيل، وحساسية مفاصل الحياة اليومية في سوريا وسط الكارثة، الكل يريد التحدث عن الكارثة ولكن كلما كان البعد أكبر كانت الحساسية أضعف للتفاصيل، حيث عرض في مهرجان بيروت للأفلام في أيلول 2022 عدة أفلام قصيرة وطويلة بعضها كان يعالج إشكاليات سورية منها فيلم "لذا نحيا" وهو فيلم قصير من إخراج "رندا أبو فخر"، الفيلم الذي يحاول نقل أشد معاناة ألماً تعيشها سوريا وهي إشكالية "الاعتقال التعسفي"، ولكن كانت لغة الفيلم وطريقة السرد ومناقشة قضية المعتقل السياسي هشة وبعيدة عن الواقع، بل وفي بعض الجوانب تكون تبسيطا للقضية.

الفيلم يتناول عائلة تحيا في سوريا في صراع يومي مع أزمات المعيشة من كهرباء وغيرها، ولديهم ابن معتقل لا يعرفون ما إن كان حيّا أو ميتا، كحال الآلاف، ويدور حوار حول الابن الغائب، حوار ينتهي بقول الأب للأم بلحظة غضب "لقد مات ابنك..قومي بنسيانه"، بشكل مباشر وفجّ. موضوع على هذا القدر من الحساسية لا يمكن أن يُطرح بهذا الشكل، سواء تحدث الفيلم عن معتقل في سوريا أو بلد أخرى، فلا يوجد حوار بين أب وأم وسط وجود أطفال صغار عن الابن الغائب بهذا الشكل المبسط دون وجود مبرر درامي وتصاعد منطقي للحديث وصولاً لنقطة الانفجار.

لا تزال الأفلام الجديدة والأعمال المقدمة تبتعد شيئاً فشيئاً عن الواقع، بالشكل واللغة والنهج، حيث يغدو الخطاب الذي تقوله هذه الأفلام موجها باتجاه معاكس، خطاب يعيش على إشكاليات الحياة اليومية في سوريا وبنفس الوقت يجرد هذه الإشكاليات من مضمونها وحقيقتها ليصبح خطابا فضفاضالا يحاكي قضايا سوريا والسوريين الحقيقية، ولكنه يثير التعاطف معها. عربي21

أضف تعليقك