هل الأردن مستعد لتشكيل تيار ديمقراطي؟

في المستقبل وبناء على مؤشرات الوضع الحالي والحراك المحموم لـتأسيس أحزاب سياسية بتلاوين مختلفة جزء كبير منها معتمدة على نخب لا يجمعهم هوية سياسية أو برامجية كإطار عام، ستتشكل أربعة تيارات سياسية في الأردن في المستقبل القريب، ومعظم الأحزاب الخمسين حاليا لن تستطيع الصمود أمام متطلبات القانون الجديد للأحزاب ولن تستطيع تحقيق العتبة في قانون الانتخابات البرلمانية القادمة بعد سنتين ونصف تقريبا، فستتهاوى تباعا، ولا يوجد عندها مشروع توحيدي أو إطار سياسي يجمعها.

أولها التيار الإسلامي بأطيافه ( جبهة العمل الإسلامي الأقوى، وزمزم، والوسط الإسلامي، وغيرها، ويمكن لاحقا حزب الشراكة والانقاذ ) ولهذا التيار قواعده المجتمعية وسرديته الجاذبة على أساس ديني لأسباب موضوعية وتاريخية معروفة، ويستطيع دغدغدة عواطف المجتمع البسيط الدينية وإثارته، على أي قضية اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية. ولهذا التيار أدواته وماكيناته الإعلامية المتعددة التي يروجون بها مواقفهم وسرديتهم.

والثاني التيار السياسي المحافظ من كبار الضباط المتقاعدين وبعض رموز العشائر ومن الأحزاب الجديدة التي بدأت تظهر على الساحة من شخصيات ووزراء ونواب سابقين.

وأيضا لهم قواعد إجتماعية من العشائر والعائلات في القرى والأطراف، ولهم سرديتهم التقليدية المحافظة التي تجذب فئات مجتمعية وأيضا لهم نفوذ سابق وحالي في مفاصل الدولة العميقة والسطحية ولهم تأثيرهم وأدواتهم الإعلامية أيضا.

والتيار الثالث، ليبرالي إقتصادي وينتهج ويعتمد مبادئ السوق الحر والحريات المطلقة ونواته رجال أعمال ونخب رأسمالية وأصحاب مصالح ولهم ادواتهم القوية من توظيف وسائل الإعلام التقليدية والحديثة لترويج وفرض فكرهم وبرامجهم.

وعليه سيتشكل فراغ كبير  لتيار ثالث من يسار الوسط الذي ينادي بالديمقراطية الإجتماعية والاقتصادية ومبادئ السوق الإجتماعي، وينادي بقيم العدالة والتضامن وسيادة القانون والحقوق.

وهذا التيار له نواته ومريديه وإطار صديق ممثلا بحزب ديمقراطي اجتماعي حديث التأسيس في العام ٢٠١٦، وله قواعد مجتمعية قليلة رغم أنه لا يعتمد على النخب لكنه حزب جاذب للشباب والنساء بسبب سرديته وفكره البرامجي ويملك مرونة ويقبل تيارات ثقافية وفكرية داخله وينمو بشكل منهجي رغم قلة الموارد، التي تبطئ عملية النمو، ويحتاج لتطوير أدواته الإعلامية وخطابه،  ليستطيع بناء قواعده الإجتماعية.

وأعتقد من المهم الحديث عن تيار ديمقراطي اجتماعي حقيقي قادر في الوقت الحالي والتأثير في المجتمع ليضم كافة المنادين بالديمقراطية والدولة الحديثة المدنية. وهذا ممكن وبقوة في المستقبل القريب بشرط توحيد الجهود وعدم الشخصنة وعدم إحتكار الحقيقة وإدعاء تملك العصى السحرية الجاذبة، وإذا تمسك البعض بمشاريع تأسيس أحزاب جديدة ستتشظى إلى شيع وفرق لا تمكنها من تحقيق وحدة التيار الديمقراطي، وبالتالي لن يتمكن من الحصول على مقاعد كافية في قلوب الناس وفي البرلمان.

ويجب أن يكون حاملا لبرنامج طموح، الذي يحتاج الكثير من الجهد للبناء والتطوير والتطبيق، ويكون لديه مقومات ومؤهلات تستطيع إستقطاب الشباب والنساء بشكل أكبر وأسرع من غيره من التيارات.

يحتاج هذا التيار إلى الإعتماد على تشكيل جناحين شبابي ونسائي حيث أن ٦٥% من المجتمع تحت سن ٣٥ عاما، وعدد الطلاب على مقاعد الدراسة في الجامعات الرسمية والخاصة أكثر من ٣٥٠ ألف طالب، والنساء يشكلن نصف المجتمع فيحتاج إلى جناح يتبنى قضاياهن ودورههن في المجتمع ويعزز مشاركتهن في الحياة السياسية والعامة.

ويحتاج هذا التيار بجناحيه إلى تطوير بنيته وتحديث أدواته في الإستقطاب المجتمعي والتوجه نحو العمل الجماعي المؤسسي، وهناك محاولات جادة على هذا الصعيد،  وهذا ينطبق على أحزاب الإتجاهات الرئيسية القائمة أو القادمة، وذلك تماهيا مع قانون الأحزاب الذي أقرت التوصية به اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية.

 ويحتاج ظهور هذا التيار لمقومات موضوعية، منها تشخيص فعال للحالة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وكذلك القدرات الحالية وإمكانية تطويرها وتعظيمها وتجسير الفجوة بين بنية المجتمع الفتية والبنية التقليدية والحلول الممكنة والعمل برؤيا واضحة المعالم واستراتيجية متوسطة المدى قابلة للتنفيذ، ويحتاج إلى توسيع فرجار الإستقطاب ليشمل جميع المحافظات وإشراك جميع أطيافه وألوانه.

ويحتاج أيضا إلى برنامج إجتماعي يلامس القضايا الإجتماعية والاقتصادية الحقيقية الآنية التي يعاني منها الناس ، ويستشرف المستقبل بمعالم واضحة، وليس مبادئ أو إطار عام فضفاض.

ويحتاج هذا البرنامج إلى شخصيات - مطعمة بقيادات شبابية ونسائية مؤهلة وقادرة على حمله والدفاع عنه وطرحه بقوة في المجتمع، وفي الانتخابات القادمة أكانت بلدية أو برلمانية.

وأخيرا وليس آخرا يحتاج إلى إرادة جماعية والابتعاد عن الفردية والأنا العالية، والتي ستذوب مع العمل الجماعي المؤسسي.

طبعا قبل ذلك يحتاج هذا الزخم إلى دعم مالي مبدئي، وهو التحدي الأكبر.

فمن أساسيات فكر الديمقراطية الاجتماعية واهتماماتها بالدرجة الأولى التعليم والصحة والتأمينات الإجتماعية والبنية التحتية (ومنها التكنولوجيا الحديثة والذكاء الإصطناعي) والنقل، وتحويل هذه المبادئ الى برامج واقعية، ويجب التوجه لإصلاح هذه المنظومة مباشرة، بعد تمهيد الطريق لإصلاح سياسي واضح وخارطة طريق نحو مجالس نيابية حزبية برامجية وحكومات برلمانية لديها برامج حقيقية تلامس حاجات المجتمع والوطن.

ومثال لإتجاه الحكومات المتعاقبة  للفشل في المنظومة التعليمية، والصحية والبنية التحتية وتطويرها هي الأساس للديمقراطية الاجتماعية وجوهر برامجها التعليم بانواعه الأكاديمي والمهني أولا والرعاية الصحية والبنية التحتية (تشمل منظومة نقل متطورة وبنية تكنولوجية تعتمد قواعد البيانات).

وكبرنامج للتيار الديمقراطي الإجتماعي أيضا الإصلاح الإقتصادي والذي يعاني من تشوهات وعجز هيكلي مزمن، و يبدأ من الإصلاح الضريبي، ففي كل دول العالم، ثمة فلسفة من قانون ضريبة الدخل، أساسها تحقيق العدالة ومحاولة إعادة توزيع مكتسبات التنمية. 

ويجب إعادة النظر في منظومة ضريبة الدخل والمبيعات لتكون أكثر عدالة، وتطبيق مبدأ الضريبة التصاعدية على المداخيل والأرباح.

وايضا الاستفادة القصوى من الثورة الرقمية، ويجب على تيار الديمقراطية الإجتماعية الإسراع في تبني الحلول الرقمية وهذا قد يساعد على تحقيق زيادة هائلة في إمكانية النمو والتنمية وإتاحة فرص اقتصادية جديدة. 

ويمكن تبني الثورة الرقمية أن تؤدي أيضاً إلى تحوُّل جوهري في القطاع العام، من حيث الشفافية والنزاهة، وتقليل الهدر 

 ويساهم هذا بنمو القطاع الخاص بحيث يصبح هو المشغل الأكبر للأيدي العاملة وبالتالي تعود الطبقة الوسطى إلى دورها الريادي.

ومن منهج الديمقراطية الإجتماعية الإستخدام الأمثل للموارد المادية والبشرية لتحقيق تنمية مستدامة لمجتمع متحرر من الجهل والجوع والخوف، متحرر من الإكراه والخضوع ومن الإحتقانات التي تسببها الفوارق والامتيازات والتمييز، ومجتمع متحرر من الانقسامات والعصبيات، مجتمع المواطنة المتساوية حيث تكافأ القدرات والإبداع والعطاء دون إجحاف وحيث يكون للجميع الحقوق والقيمة نفسها بما يجسد المعنى الكامل لسيادة القانون والدولة المدنية دولة القانون والمؤسسات.

والفكر الديمقراطي الإجتماعي ليس فكرا جامدا متصلبا، بل منفتحا يتطور مع الخبرة والتجارب ويتعدل ذاتيا بناء على المعطيات الواقعية وخصوصية كل بل أكان في دول العالم الثالث أو الدول المتقدمة، وفي ظل أنظمة ملكية أو جمهورية.

إن قيم الحرية وحقوق الإنسان والتنمية الثقافية والروحية والإبداع واحترام الخصوصية والتنوع ونبذ التمييز والعنف والتطرف وإعلاء شأن التضامن المجتمعي والتعاطف والوقوف مع الفئات الضعيفة والهشة والمهمشة، هي من صلب الفكر الديمقراطية الإجتماعية إلى جانب إقتصاد عادل ومتطور لايوجهه الربح فقط، والحوافز المادية الشخصية بل قيمة انسانية تحرص على تعميم الرفاه ومكاسب النمو والتنمية وتقليل الفوارق والفجوات الإجتماعية.

والدولة بمؤسساتها هي المنوط بها تحقيق التوازن والعدالة وتصويب الإختلالات ومنع التغول.

وفي الوقت الذي تحترم الحريات والتنافس والمكتسبات الخاصة وقوانين السوق والتجارة، فإنها تراقب القطاع الخاص وتعتبره المشغل الرئيس للعمالة والموارد البشرية، وأيضا تنمي القطاع العام وتوجه الموارد قدر الإمكان للإنفاق على الخدمات العامة من تعليم وصحة ونقل ورعاية اجتماعية وبنية تحتية، وتحقيق أفضل قدر من الرفاه للجميع

ويجب على هذا التيار إحترام التيارات الأخرى وعدم شيطنتها واللجوء إلى أدوات الإستقطاب المستفزة، لكي يستطيع الأردن بتياراته بدء عملية نمو وتنمية حقيقية وتحول اقتصادي اجتماعي؟

أضف تعليقك