نبيل خوري: أحترف الغربة والصحافة...ورحل

توقف قلب الأديب اللبناني من أصل فلسطيني، نبيل خوري عن النبض قبل ثلاث سنوات، معلنا وفاة أحد أعمدة الصحافة العربية أو "الشامية" في ستينات وسبعينات القرن الماضي، تاركا هذا الصحفي "الورّاق" -كما يطلق عليه صديقه القريب نجيب رياض الريس- أعمالا أدبية وقصصا ومقالات أحدثت تغيرا في منحى كتابة المقال لدى الكثير من الكتاب العرب.نبيل خوري قصة رجل ُرّحل عنوة مع أهله من مدينته الأم القدس إلى بيروت، وهناك لم يقف على الأطلال وندب حظه، فقد وقف ضد التيار وتصد للعقبات متجاوزا في بيروت صعاب جمة أهمها أنه فلسطيني و الأخرى مسيحي، لكنه اثبت الكفاءة والقدرة على مماحكة التيار.



"آخر الظرفاء رحل" يقول الصحفي والناشر نجيب الريس، ويتابع "في بيروت في مطلع الحرب، كنت ونبيل خوري نجلس معا نحلم سوية في المستقبل، المستقبل المجلة والمستقبل المهنة، ليال طوال سهرناها في العتمة نخطط وندرس ونتصور، حتى قذفت الحرب اللبنانية كلا منا على شاطئ، أنا في لندن وهو في باريس استأجرنا غرفة مكتب متواضعة تقاسمتها مع نبيل، أنا للتخطيط ل"المنار" في لندن، وهو استعداداً لإصدار "المستقبل" في باريس وشاركت نبيل ولادة الحلم، ولم أشارك في البدء في الكتابة..."



تقرأ في مقالته اليومية والتي كانت تنشر في مجلة المستقبل قبل إغلاقها أو جريدة النهار، أحوال الحياة اليومية واهتماماته وقضايا وهموم أي مواطن عربي بأسلوب جاذب، استطاع من خلاله أن يحفر في وجدان من اعتاد القراءة له أن لا يجد مثيله.



ولد خوري في القدس، عام 1929، وحاز على إجازة في الصحافة من جامعة القاهرة، وقد عمل رئيسا لتحرير مجلة "الحوادث"، ورئيسا لتحرير مجلة "المستقبل" التي أصدرها من بيروت ثم من باريس سنة 1975 خلال الحرب اللبنانية، ثم مديرا عاما لإذاعة "صوت لبنان"، ومعلق في إذاعة "الشرق" التي تبث من باريس وكاتب عمود في جريدة "النهار".



وقد أعتبر الكثيرون أن روايته الأولى "المصباح الأزرق" من أهم الروايات التي صدرت عام 1957، وقد طبعت خمس مرات، وكذلك رواية "حارة النصارى" الصادرة عام 1968، وفيها استذكر واستعاد في مخيلته حارة النصارى في القدس معشوقته.



رئيس الوزراء اللبناني الراحل، رفيق يقول عنه "رحل المقدسي العربي نبيل خوري، الرجل الصحافي الكاتب احتضن هموم الوطن الواسع في حياة حفلت بالعطاء رغم هموم العيش في غربتين، الأولى عندما خرج من القدس والثانية عندما خرج بيروت إلى باريس (...) في الصحافة كان قد أدمن البحث عن المتاعب، إنجازاته المهنية أكثر من أن تعد وتحصى".



ويكتب الراحل الحريري في مقدمة كتاب خوري "3000 رأي في 3000 يوم" والذي صدر بعد وفاته "في ذلك الوقت بدأ التعرف إلى كاتب يُدعى نبيل خوري. أؤمن بأن القدر يحكم خطواتنا في الحياة، لكني عندما بدأت قراءة كتابات نبيل خوري ورواياته وأنا بعد في بيروت لم أكن أدري أننا سوف نصبح في ذات يوم أصدقاء ثم رفاق طريق ومشوار في طموحات إعلامية واحدة، بينها إذاعة الشرق التي يطال منها نبيل كل يوم في "رأي". ولا أعتقد أن خلافنا في "الرأي" كان كثيرا وكبيرا، وإذا حدث في مصادفات متباعدة فهو لم يفسد يوما للود قضية".



ووصفه صاحب جريدة النهار غسان تويني بـ"الصحفي الشغيل" الذي لا يعرف كللا ولا يتقبل صدوفا؟ تسلق أعمدة المهنة، حرفا حرفا وسطرا سطرا، ...صار مثال الطموح الخّلاق، بالكاد يبالي بالمردود المالي إذا كانت جمالية العمارة – مقالا وتحقيقا وحوارا (...)، كان هو حارة النصارى ليس في قدسه المعذبة فحسب ولا في فلسطينه وحدها التي كان يراها تحترق ونحن لا نعرف ولا في لبنانه الذي بتنّاه ولم يشعر أنه أنتقص من مقدسيته شيئا (...)، كان هو العربي العروبي الذي يغالب الجاهلية حيثما ذهب ويتصنع بها ذخيرة من أمل".



نبيل خوري عاد إلى بيروت على عجلة امتثالا لغربة صديق عمره، رياض الريس ذلك كي يسلم مخطوط كتابه الأخير "3000 رأي في 3000 يوم"، لكن ما حصل معه أنه سقط مغشيا عليه في المطار، وما أن نقلته الإسعاف إلى المستشفى حتى كان في غيبوبة لأيام، وبعدها فارق الحياة، ويقول رياض الريس حول ذلك "منذ ذلك اليوم المشؤوم الذي سقط فيه نبيل خوري على أرض مطار بيروت قادما من باريس، ولم يجد في ذلك المطار من يسعفه، وإحساس كبير ومقلق بالذنب ينتابني بأنني أنا الذي قتلته. لأن لولا استدعائي له من باريس وإلحاحي في حضوره إلى بيروت واستعجالي لإصدار كتابه، لما حدث ما حدث، ومع إيماني بالأقدار فإن هذا الشعور ما زال يلازمني".



نبيل خوري صديق الشعراء والمثقفين، ونرى خوري يكتب في أحد مقالته المنشورة "هكذا كان حالنا محمود درويش وأنا، في الأشهر الأخيرة لأقامته في باريس، قبل أن يحزم حقائبه ويغترب من جديد إلى العاصمة الأقرب إلى الوطن: عمان وكنا نلتقي باستمرار مرة في الأسبوع على الأقل: الغريب أن حديثنا في هذه اللقاءات التي كانت تتم عادة إلى الغذاء وفي مطعم لبناني يملكه أرمني مشهور في عاصمة النور اسمه ميساك، كان حديثا،بسيطا، هادئا، صافيا كالعرق الذي كنا نكرعه مع توابعه بلا وعي (...) كنا نتحدث عن كل شيء إلا ما يجمع بيننا حقيقة، وما أكثرها:الوطن، القلم والصحافة، الغربة وباريس. موضوع واحد كان يتكرر كل لقاء: إلى أين سيذهب محمود بعد باريس. وذلك بعدما قرر أن رحلته إلى باريس قد انتهت، وأنه لن يسافر أو يهاجر أو يغترب من عاصمة أوروبية إلى عاصمة أوروبية أخرى. قرر أن تكون الرحلة إلى عاصمة عربية، ومن دون تردد كان اختياره الأول بيروت، لكن بيروت لم تكن جاهزة لاستقباله بعد، لأسباب معروفة ولا داع لذكرها(...) ها أنا قلق حزين، خائف وحدي في ليل باريس، يفصلني عن محمود درويش رفيق الغربة والوحدة، دقائق بالسيارة، حيث يقضي الليل في المستشفى في انتظار أن تجرى له جراحة عاجلة (...) لكن ما لا أنساه أنه أختار عنوانا لديوانه، قائلا لي أنه حائر في اختيار العنوان، ولم يعجبه أي عنوان اختاره، رغم انتهائه من الكتابة منذ أسابيع. وأخذت الديوان إلى منزلي وطلع الفجر وأنا لا أزال أقرأه ومع الفجر كان العنوان (لماذا تركت الحصان وحيدا)".



لم نتحدث عن نبيل خوري لأسباب التي أعتاد عليها أي كاتب يتناول أناس رحلوا "في مثل هذا اليوم" قد توفوا، لا فقد توفي نبيل خوري في الثالث عشر من أيلول من عام 2002، لكن نسرد بعضا من حياة هذا الصحفي "الشّغيل" كونه النموذج السليم في سير الصحفيين العرب. نبيل خوري الصحفي الأبرز والإعلامي الأقدر على طرح القضايا والتعليق عليها ونقدها بأسلوب لا يخلو من الطرافة والبساطة والسخرية الجميلة. رحل دون أي اهتمام يذكر في عالمنا العربي.



من أعماله القصصية نذكر: كفر 1954، ليلنا خمر 1959، أوراق الشتاء 1993، أما الروائية: المصباح الأزرق 1957، راقصة على الزجاج 1959، حارة النصارى 1968، ثلاثية فلسطين 1974، الغربتان 1992، ليلة القبض على الصحفي 1997، وأنا في مجال كتب المقالات: مجتمع بلا رتوش 1961، المقالات الغاضبة 1988، آخر النهار 1998، المرافئ القديمة من دفتر الصحافة 1998، وأحاديث في إذاعة الشرق 3000 رأي في 3000 يوم، أما في السير: الإمبراطورة الحزينة 1959، قصة مهرب (بالاشتراك مع سليم اللوزي).

أضف تعليقك