تأييد بوتين في حربه على أوكرانيا خطأ أخلاقي وسياسي جسيم

دخلت حرب بوتين على الجارة أوكرانيا أسبوعها الرابع دون أن تحقق هذه الحرب سوى القليل، مع أن بوتين كان يعتقد أن جيشه هذا سيحقق له كل أهدافه خلال أيام معدودة. سقط الآلاف من القتلى والجرحى من الجانبين من عسكريين ومدنيين في هذه الحرب العبيثة المدمرة، التي أدت في بداية أسبوعها الرابع فقط إلى تدمير كم هائل من البنية التحتية المدنية والعسكرية في أوكرانيا، وتحويل ما يقرب من 8 ملايين أوكراني إلى نازحين مشتتين داخل أوكرانيا أو لاجئين خارج أوكرانيا. إن رؤية صور ومشاهد القتلى والجرحى وطوابير عشرات الآلاف من الأوكرانيين وهم يهربون مذعورين من بلدهم إلى البلدان المجاورة – غالبيتهم العظمى من النساء والأطفال – لهو أمر مرعب وحزين لم تألفه القارة الأوروبية منذ الحرب العالمية الثانية. والمؤسف أن هناك من العرب من لا زال يؤيد بوتين ويعتبره خليفة الزعيم السوفياتي العظيم جوزيف ستالين.

أصدقائي، هذه حرب فلاديمير بوتين، وليست حرب روسيا على أوكرانيا، هذه الدولة المجاورة ذات السيادة والعضو الكامل في الأمم المتحدة منذ انهيار ما كان يسمى بالاتحاد السوفياتي والكتلة الشرقية في العام 1991. تذكروا التالي: لو كان نظام بوتين نظاما يستحق اتخاذه كنظام عالمي يُحتذى، لما انفضت كل الدول تقريبا التي كانت إما ضمن الاتحاد السوفياتي أو الكتلة الشرقية عن بوتين ونظامه الذي خلف الاتحاد السوفياتي، مع أن الثابت أن بعض هذه الدول كانت منضوية تحت لواء الاتحاد السوفياتي رغما عنها. بعض هذه الدول انضم الى الاتحاد الأوروبي أو حلف الناتو، أو إلى الهيئتين معا، ولم يتبق منها مع روسيا بوتين سوى عدد قليل منها مثل بيلاروسيا أو الشيشان أو كازخستان، وهي دول محكومة بالحديد والنار من قبل أنظمة تشبه نظام بوتين. تذكروا ما قام به بوتين في الشيشان وجورجيا ومولدوفا، وقبل شهرين فقط في كازخستان، حين قام بالزج بالآلاف من قواته المسلحة إليها لمساعدة حكومتها الموالية له على القضاء على تمرد شعبي، ما انتهى إلى مقتل الآلاف من الكازاخيين والزج بآلاف مؤلفة أخرى منهم في السجون. 

لن أخوض في هذا المقال في أسباب ومبررات هذه الحرب الإجرامية على أوكرانيا، ولكن اسمحوا لي أن أقول في عجالة إنها لا مبرر لها، ومهما كانت أسباب ومبررات بوتين الواهية، فقد كان بالإمكان حل كل هذه المشاكل عبر أية هيئة دولية مثل الأمم المتحدة أو إقليمية مثل منظمة الأمن والتعاون الأوروبية، أو غيرها. هذه حرب تخيل بوتين أنه سينهيها في بضعة أيام يقوم خلالها بتحقيق أهدافه التوسعية وهي: ضم ما أراد من أرض أوكرانية إلى أراضي روسيا وتحويل حكومتها الديمقراطية الليبرالية التي انتخب رئيسها الحالي فلودومير زيلنسكي بنسبة تأييد بلغت 73%، إلى دولة مثل بيلاروسيا تحت حكم ألكزاندر لوكاشنكو. انظروا إلى الطريقة التي يتعامل بها بوتين مع لوكاشنكو هذا وكأنه لا أكثر من واحد من "صبيانه"؛ فهو يأتمر بأوامر بوتين تماما ولا يعصي له أمرا. لوكاشنكو هذا، مثل بوتين، بالطبع ليس زعيما منتخبا بصورة حرة ونزيهة ولا مستقلا عن فلك بوتين، وهكذا يريد بوتين أن يكون كل الحكام الذين يجاورون روسيا التي بناها خلال عشرين عاما من حكمه كقلعة من الديكتاتورية والقمع والبلطجة وحكم الزعيم الأوحد. قلت في مقال سابق إن بوتين ليس نموذج القائد الذي يجب أن تتطلع إليه شعوب المنطقة العربية، ولا أية منطقة أخرى، وأنا مقتنع أكثر بألف مرة بهذا بعد هذه الحرب الهمجية المدمرة التي يشنها على أوكرانيا تحت مبررات ومسوغات لا تنطلي حتى على الصغار.

كيف يمكن لأحد أن يُغرم بزعيم يقمع شعبه ويقتل معارضيه بالسموم في المنافي ويسجن الآلاف الآخرين لمجرد أن يتجرأوا على انتقاده أو، وكما يحصل الآن، على الإعراب عن معارضتهم لحربه الوحشية على جارتهم أوكرانيا؟ كيف يمكن لأحد أن يُغرم بزعيم ديكتاتوري فاسد تشير غالبية التقارير إلى أنه يمتلك عشرات، وربما مئات المليارات، من الدولارات في حسابات سرية يخفيها ويديرها له الأثرياء الروس الذين يسمون بالأوليغارك؟ هذا في الوقت الذي تعيش فيه غالبية أبناء شعبه في جوع وفقر مدقع. إذا كانت الدول التي كانت جزءا من الاتحاد السوفياتي أو الكتلة الشرقية قد تخلت عن الاتحاد الروسي، الذي هو خليفة الاتحاد السوفياتي، منذ انهيار الأول قبل ثلاثة عقود، فلماذا يُعجب أحد في العالم بحاكم الاتحاد الروسي الحالي؟ لنضع حقوق الإنسان والقمع والقتل جانبا قليلا، ونركز فقط على التطور الاقتصادي الذي حققته الدول الشيوعية السابقة التي انشقت عن نظام بوتين خلال الثلاثين سنة الماضية. فإضافة إلى أن هذه الدول بنت سريعا دولا ديمقراطية ليبرالية في تلك المنطقة وحازت على الاحترام العالمي، حققت هذه الدول طفرات اقتصادية هائلة خلال هذه الفترة لم تحققها روسيا بسبب نظام بوتين.

فحسب البنك الدولي، بلغ الدخل السنوي للفرد الروسي في العام 2021 لا أكثر من 6,500 دولار، أي ما يزيد قليلا عن 500 دولار شهريا. هذه الروسيا أصدقائي، يفترض أن تكون دولة عظمى!! وبالمقارنة يبلغ دخل الفرد الشهري في دولة صغيرة كانت عضوا في الكتلة الشرقية، مثل رومانيا حوالي 890 دولارا شهريا، فيما يبلغ الدخل الشهري لمواطني بولندا المجاورة 1945 دولارا شهريا، في حين يبلغ دخل الفرد الشهري في الولايات المتحدة ما يقرب من 6,000 دولار. 

لكل هذه الأسباب انفضت كل الدول تقريبا التي كانت أعضاء في حلف وارسو أو الكتلة الشرقية من حول بوتين والتحقت بالركب الغربي حيث تنعم بأنظمة ديمقراطية واقتصاد حر وحياة حرة كريمة يتوفر لهم فيها الأمان والتعليم والرعاية الصحية الملائمة. ولم يتبق من إرث الكتلة الشرقية حول بوتين سوى بضع دول إما مغلوبة على أمرها بسبب بطش بوتين أو محكومة من قبل بعض "صبيان" بوتين مثل لوكاشنكو.

أحترم وجهة النظر الأخرى، ولكن أتمنى على قرائي أن يحترموا وجهة نظري. أنا لا أستطيع أن أقبل أو أؤيد زعيما قمعيا، ديكتاتوريا، فاسدا، يسلب حرية شعبه في الحرية والتعبير الحر عن الرأي. ورغم أن الكثيرين ربما يشاركونني الرأي، فإن هناك الكثير من المؤيدين والمعجبين بفلاديمير بوتين في المنطقة العربية، بل والتابعين له. يا للعيب!!

هناك نوعان من مؤيدي بوتين في هذه المنطقة، وإن كانا يلتقيان في نقطة محددة، وهي تتمثل في مقولة أن "عدو عدوي صديقي!" النوع الأول هو من ينتمون إلى دولة أو دولتين، أو أنصاف دول بصراحة، يوفر جيش بوتين وشركته الأمنية "فاغنر" ببطشها ووحشيتها الحماية والدعم لنظاميهما في المنطقة العربية. والنوع الثاني هو الذي ينظر إلى الولايات المتحدة، التي تقود حلفا قويا للتصدي لمغامرة بوتين الوحشية الحالية في أوكرانيا، وبريطانيا إلى حد أقل، على أنها مسؤولة عن المأساة الأفظع في القرن العشرين، أي القضية الفلسطينية. ولأن بوتين "يتصدي" لأميركا وحلفائها الغربيين، فيجب أن يكون "صديقنا."

أنا لا أختلف أبدا مع الذين يعتقدون أن الولايات المتحدة مسؤولة إلى حد كبير عن كارثة الفلسطينيين التي ربما تفوق في فداحتها ووحشيتها وقسوتها وطولها كارثة أوكرانيا والأوكرانيين اليوم. فقد قُتل وجرح مئات الآلاف وربما أكثر من الفلسطينيين والعرب الذين وقفوا إلى جانب الفلسطينيين من الدول العربية المجاورة كالأردن ومصر وسوريا ولبنان وغيرها في محنتهم على مدى السبعين سنة الماضية، ولا زال نصف الشعب الفلسطيني مشردا ومقهورا يبحث عن قطعة أرض يسميها وطنا في مختلف أصقاع الأرض. هذه حقائق. وحين يرى الفلسطيني أو العربي المهتم بالقضية الفلسطينية ما يقوم به الغرب من جهود لمساعدة الأوكرانيين ضد هذا الغزو البوتيني الهمجي، ويرى أن هذا الغرب الذي هو نفسه يساعد أوكرانيا بكل هذا الدعم، يكون رد فعله الفطري هو الوقوف ضد أميركا والغرب، ثم الانزلاق من هذا الأساس الواهي أصلا إلى تأييد بوتين وحربه على أوكرانيا، على أساس أن هذا انتقام من الغرب! هنا مربط الفرص، أصدقائي. الأوكرانيون لا ذنب لهم في المأساة الفلسطينية، بل هم ضحايا لغزو واحتلال وحشي تقوم به روسيا. وبوتين لم يقم بغزو أوكرانيا لتركيز الأنظار على غزو واحتلال إسرائيل لفلسطين الذي لا يقل وحشية عن غزوه لأوكرانيا، بل هو يقوم بهذا الغزو لمجموعة من أسبابه الخاصة الواهية ومسوغاته السخيفة، المريضة حقا. بوتين، أصدقائي، ليس صديقا لا للعرب ولا للفلسطينيين ولا لأي شعب محب للحرية والسلام والعدل في العالم. ماذا قدم بوتين للفلسطينيين على مدى 21 عاما من حكمه العتيد؟ لا شيء؟ ماذا فعل للشعوب العربية المقهورة؟ لا شيء سوى ما قام به من فظاعات ودمار وقتل لليبيين في ليبيا وتقاسم السيادة مع إسرائيل على سوريا. لا عليكم إلا أن تتصفحوا بعض الصور لمدينة حلب التاريخية التي دمر بها بوتين الكثير من أسلحته التي جربها على حلب ليستعملها الآن في تدمير مدن أوكرانيا التي تعلم فيها آلاف الأطباء والمهندسين والصيادلة العرب.

ختاما أقول: يجب على الفلسطينيين قبل أي شعب آخر أن يقفوا بجرأة وشجاعة لقول: نحن كفلسطينيين نعاني من الاحتلال والقتل والاستيطان على يد قوة مدعومة من الكثير من دول الغرب التي تؤيد أوكرانيا اليوم بكل هذا الحماس، نحن ضد أي احتلال، وضد أي غزو وأي استيطان كولونيالي، من حيث المبدأ، بما في ذلك الغزو والاحتلال البوتيني لأوكرانيا. ونحن نطالب المجتمع الدولي، خصوصا المجتمع الغربي الليبرالي، بأن يقف معنا كما يقف مع الشعب الأوكراني المقهور ويساعدنا على التخلص من احتلالنا، كما يساعد الأوكرانيين. نحن لسنا مع بوتين أو مع أي زعيم ديكتاتوري، وحشي، قمعي، فردي آخر. نحن شعب نبحث عن الحرية والكرامة والاستقلال والعيش كبقية خلق الله. نحن كفلسطينيين آخر من يمكن أن يؤيد طاغية، محتلا، قاتلا مثل بوتين. نحن نقف بوضوح وبكل قوة مع الشعب الأوكراني، الذي هو جريح ومقهور ومشتت مثلنا. حينها، أصدقائي، قد، وأقول قد، يفهم الغرب مأساة الفلسطينيين، وقد يراجع نفسه. هذا ليس مضمونا أبدا، ولكنه ممكن. ولكن المضمون هو أن الوقوف إلى جانب بوتين سيعود على الفلسطينيين والعرب بعكس المرجو يقينا.

أخيرا، أرجو ألا يقع الفلسطينيون في الخطأ الذي وقعوا فيه حين احتل الزعيم العراقي صدام حسين الكويت في العام 1990، وهو الاحتلال الذي غير خارطة العالم العربي إلى اليوم، وأبعد الفلسطينيين عن تحقيق أهدافهم الوطنية ربما لعشرات السنين.

مفيد الديك إعلامي أميركي عربي ودبلوماسي أميركي سابق.

أضف تعليقك