بيروت العربية..حلم مسنة النظيف

الرابط المختصر

قلم رصاص وممحاة، مبراة وحقيبة مدرسة تحضرها..وعند وقوف عقارب الساعة عند الثالثة عصرا، ستكون أول الحاضرات للقاعة، وأول الجالسات على مقعدها المهترء..وحصص اللغة العربية، كانت أول الطريق لأم عقاب، تلك السبعينية القادمة من قرية شعفاط قضاء القدس والقاطنة في جبل النظيف شرق عمان، وكما تعرف نفسها وبدون سؤالها أحد "معك أم عقاب من شعفاط القدس".

وتأخذ أم عقاب كراستها وتذهب عصرا إلى حصتها في محو الأمية في الجبل، وتتعلم اللغة العربية وكل ذلك لتعيل نفسها وتختصر على حالها عناء السؤال اليومي ما المكتوب بالفاتورة وهذه الآرمة ماذا تعني.."أريد أن أقرأ فاتورة الكهرباء والمياه ويافطات الشوارع"..أم عقاب لا تعرف العمر في قاموسها لدرجة وأن حاولت سؤالها عن عمرها ستقول بإصرار وثقة كبيرة "عمري، يا حبيبي، 48 سنة"..وكأن عقارب العمر توقفت عندها..
 
شقيقها والذي درس الحقوق في جامعة بيروت العربية قبل عقد من الزمن، لم يكن وقع دراسته متروك على مخيلتها فحسب إنما حاولت أن تعلم ابنتها المحاماة على أمل أن تحقق ما لم تستطع تعلمه في صغرها..ولكن ابنتها ذهبت إلى أمريكا ولم تدرس المحاماة..وبقي حلم أم عقاب على لسانها ترويه لمن تعرفه.."أحب المحامي، وهو يحمل الحقيبة ويتجه للمحكمة"..
 
لا تهمها نظرة السيدات لها، "شوفو إم عقاب، حاملة الحقيبة ورايحا تدرس"..حيث تذهب إلى صفها كل يوما عصرا، وتقتنع بأنها يجب أن تتعلم وتدرس في الجامعة وكذلك جاراتها..         
  
أم عقاب ليست امرأة استثناء أو مختلفة عن غيرها من سيدات جيلها، أو أنها تمايزهن جمالا أو ذكاءً، إنما سيدة "قوية" استطاعت أن تكسر حاجز الرهبة والتسجيل في حصص العربي والدين وتتمنى الإنجليزي في قاعات محو الأمية..
 
في السابق، كانت مكتفية بصنع العجائب في حاكورة بيتها، فما أن تطعم الأرانب السارحة بين قديمها، وترتيب الأثاث القديم المهترء المتناثر في الزوايا، وترتيب تنكات الزريعة ومسح الجدران الإسمنتية القديمة ذات الفجوات الكبيرة في الحاكورة..حتى تجلس مرتاحة مع صديقاتها المسنات المجاورات لها..حيث يشربن القهوة ويدخن ويتحدثن عن صديقاتهن والجيران "من مات، من مرض، من سافر، من نقل إلى المستشفى"..
 
وحالها هذا لم يستمر طويلا، لأنها ملت الروتين اليومي، وشعرت أن حلمها ليس بعيدا، والمسافة بينهما "دراسة" ليس أكثر..وها هي تدرس الآن في محو الأمية ثم بعد ذلك.."سأدرس في لبنان" تصمت ثم تتابع.."أنا بعرف لبنان. زرتها مع شقيقي سنة 1967"..
  
تستقبل أم عقاب بشكل يومي في بيتها شبان متطوعين في المؤسسة العربية للتنمية المستدامة.. يساعدونها على متابعة تصليحات بيتها التي تكفلت بها المؤسسة..وتدعو لهم التوفيق والرحمة من عند الرحمن..وتقول: "بارك الله فيهم، حبايبي هدول، بحبوني، بساعدوني"..لأم عقاب بنتين وولدين والآخرين يعيشان معها وهما عاطلين عن العمل.. البيت مميز في ألوانه الزاهية: حمراء صفراء، خضراء، تبعث أملا تماما كروح أم عقاب.
 
في بيتها المستقل على رأس جبل النظيف، حيث غرفة المعيشة والمطبخ الخالي من أي شباك؟؟وغرفة نوم يغلقها ستارة سوداء لتفصلها على غرفة المعيشة بالإضافة إلى الحاكورة أو الحديقة القديمة..تقيم فيه من سنوات..
 
الزمن عاد إلى الوراء، وأيقظ حلمها، وجعلها تفكر جديا " إذا لم أستطع تعليم أولادي فلماذا لا أتعلم أنا".. "أنا لست كبيرة أنا صبية أرموني في البئر أخرج منه بسرعة"..تتمنى أم عقاب أن تذهب إلى لبنان وتتعلم الحقوق في جامعة بيروت العربية..