الإنسانية المدفونة فينا

الإنسان – أي إنسان فينا- يعيش حياته كلها منذ أول إدراكه حتى فقدانه ذلك الإدراك بناء على منظومة إيمان خاصة به. معتقدات يعتقد بها متغيرة وثابتة تشكل تلك المنظومة الإيمانية، الإيمان – بأي شيء- هو أساس ومركز الهوية لأي إنسان.

عبر تاريخ البشرية كلها، سواء اعتمدت النسخة الدينية لآدم وحواء في توثيق هذا التاريخ أو الجد القرد المؤسس الأكبر أو من زمن إنسان الكهف الأول، كان هنالك الإيمان، وبمسيرة تاريخية متعاقبة بمفهوم هيغلي للتاريخ لا كتتابع اعتباطي للأحداث، كان ينبثق من هذا الإيمان تلك المؤسسات التي مثلت الأديان والعقائد الكثر تنظيما.

واليوم، إذا نظرنا إلى تلك المنظومات الإيمانية للأديان الأكثر تنظيما (وهي ليست الأديان السماوية الثلاثة التقليدية وحسب)، فسنجد أن أكثرها تنظيما وتعقيدا على الدوام كانت الكاثوليكية، والتي لا تتعامل مع مليار ونصف من البشر المؤمنين بها والمنضوين تحتها وحسب، بل تتشابك فعليا ويوميا مع ألفي سنة من العقيدة بين تزمت وانفتاح وإرث من التاريخ الثقيل والضخم المليء بالنزاعات والتسويات والإمبراطوريات والممالك والحروب والسلام.

وعليه، فإنه من المرعب والمثير بنفس الوقت أن يكون أي إنسان، هو ذلك القائد لكل هذا الدفق البشري المتواتر والمتواصل متربعا على الكرسي الرسولي في حاضرة الفاتيكان في روما.

__ __

كل ما ورد أعلاه، تكثيف لكل ما قرأت وسمعت واختبرت عن تاريخ روما المسيحي، وقد كان حاضرا في ذاكرتي وأنا أشاهد الفيلم الذي أطلقته شبكة نتفليكس قبل أيام: The Two Popes، أو البابوان، كأقرب ترجمة ممكنة ومفهومة لعنوان الفيلم الذي يتحدث عن شخصيتين لا تزالان على قيد الحياة، ضمن دراما تمزج بين المتخيل والواقعي، وهما شخصية البابا بنديكت السادس عشر والبابا فرانسيس بابا روما الحالي.

هذا الفيلم، حلبة صراع جدلي مدهشة، بين شخصيتين فكريتين متباينتين، الألماني جوزيف راتزنغر، والأرجنتيني خورخي ماريو بيرغوليو (والمعروف باسم بيرغوليو) وكنت قد أفردت له مقالا سابقا هنا في زاوية حرة قبل عام تقريبا بعنوان "كيرياليسون كيرياليسون" على خلفية زيارته التاريخية لدولة الإمارات العربية المتحدة.

الأجمل من زاوية سينمائية وفنية، أن الفيلم كان حلبة صراع فني فائق الإبهار بين ممثلين بريطانيين، استطاع مخرج الفيلم البرازيلي فرناندو ميريليس أن يجمعهما في حوارات ثنائية طويلة تتطلب قدرا عاليا من الحرفية في التمثيل والتشخيص وربما التقمص الكامل للشخصيات، فكان الفيلم فعليا بطولة مشتركة بين السير أنتوني هوبكنز (وقد كانت له تجربة سابقة مع ميريليس عام 2011 في فيلم اسمه 360)، وقد أدى هوبكنز دور البابا الألماني الأصل بنديكت، أمام البريطاني المخضرم جوناثان برايس، والذي تفوق في أداء دور بيرغوليو- البابا فرنسيس- إلى حد التماهي.

بطل الفيلم الحقيقي كان الحوار، أو النص المكتوب الذي كان مكثفا بلا ملل وبسردية تعرف كيف تتوقف وقد نفخ فيها الممثلان روح الحياة.

الفيلم أثار العديد من الأسئلة، وهي أسئلة استطاع النص الذكي ورؤية المخرج أن ينتشلها من جدلية داخلية عقائدية مسيحية إلى نقاش إنساني عام حول الإيمان نفسه.. الإيمان بالمطلق وعلى إطلاقه.

هذا الصراع بين الذات والذات في نفس الكينونة، فالفيلم لم يكن تقليديا بتصوير صراع بين خير وشر في توليفته الأساسية، بل هو صراع الذات في التطهر المستمر، المحاولة القصوى للوصول إلى المثالية المستحيلة، الإنسان النقي والمستحيل في نفس الوقت.

الشخصيتان يمكن لك أن تتعاطف معهما على تباينهما الكبير، البابا الألماني الذي لا يعرف عن تفاصيل العالم من حوله أي شيء إلا ما درسه "بوعي" من دراسات في التاريخ والأدب حتى في الموسيقى هو كلاسيكي جدا، فيسخر من "دندنة" بيرغوليو لأغنية من أغاني فرقة "آبا" السويدية، بينما بيرغوليو هو ذلك الذي يعشق كرة القدم، ويحب المزاح والتبسط مع الناس، ورغم كل إيمانه إلا أنه مجروح في داخله من ماض قديم يلاحقه ولا يستطيع محوه.

فكرة الخلاص.. تلك الفكرة التي يتمحور حولها الفيلم تقريبا، فالبابوان، يحاولان أن يسمعا كلمة من "الله"، كلمة مباشرة منه، إيماءة أيضا، إشارة ما يؤمنان أنها منه، وينتهيان بلقاء بعضهما وقد أيقنا أن الإشارة وصلت.

__ __

سابقا لمشاهدة الفيلم، كنت سألت أحد الأصدقاء من رجال الدين الكاثوليك في بروكسل عن البابا بنديكت، وسر اعتزاله الذي تبع سلسلة فضائح طالت الكنيسة الكاثوليكية، فأجابني برأيه الشخصي البحت والمنطقي بأن البابا بنديكت كان عالما أكثر منه إداريا او سياسيا، وهذا مرده أنه لم يكن يتبع أي من اخويات الرهبنة في الكنيسة الكاثوليكية، كان منفردا ولوحده (يشير الفيلم إلى تلك الوحدة عبر لسان الشخصية بوضوح)، بينما كان البابا فرانسيس طوال عمره "يسوعيا"، وهي أكبر رهبنيات الكنيسة في العالم، وتتواجد في 112 منطقة جغرافية موزعين على قارات العالم الست، ومركزها الرئيسي يقع في روما، وتتبع نمط الإدارة اللامركزية، وتدير أعدادا كبيرة من المدارس، والجامعات، والمشافي، ودور العجزة، والمكتبات، وتهتم بالحوار المسكوني، والتطوير اللاهوتي، والعدالة الاجتماعية.

فلك أن تتخيل حجم اللوبي الداعم والمساند للبابا فرنسيس، مقابل حجم الوحدة والانعزالية للبابا بنديكت (وهو اليتيم في الامتداد الرهبني) في عملية إدارة أكبر منظومة دينية متشابكة ومعقدة في العالم.

لعل – وهذه قراءة شخصية- كان للرهبنة اليسوعية بكل نفوذها أثر ما في ترجيح كفة البابا فرنسيس وشعبيته في الفيلم (وخارج الفيلم) على حساب البابا بنديكت، المنعزل والوحيد بإيمانه وأسراره.

__ __

على هامش كل ما سبق، فقد عدت لأرشيفي الخاص لأستعيد حكاية منسوبة للبرازيلي الشهير باولو كويلو من مجموعته المسماة "مكتوب"، وتقول الحكاية القصيرة جدا، والتي تستحضر نفسها فورا بعد مشاهدتي للفيلم:

(نزلت السيدة العذراء، حاملة يسوع بين ذراعيها، إلى الأرض لزيارة دير، وقف الرهبان، شديد الفخر، صفا لتكريمها، ألقى أحدهم قصائد، وأخرج لها آخر كتابا مقدسا مزخرفا، وعدد آخر أمامها اسماء القديسين!

فى آخر الصف وقف راهب متواضع لم تتح له فرصة الدراسة مع حكماء زمانه.

كان أبواه من البسطاء العاملين فى السيرك.

عندما وصل دوره أراد الآخرون أنهاء مظاهر التكريم خوفا من الأساءة لصورة الدير

ولكنه أراد هو ايضا إظهار حبه للعذراء!!

فأخرج من جيبه، محرجا، وشاعرا بنظرة أخوته المستهجنة، أخرج بضع برتقالات

وأخذ يرمى بها فى الجو ويلتقطها مثلما علمه أبوه.

عندها فقط ضحك يسوع، وصفق بيديه فرحا، مدت العذراء يديها إلى ذلك الراهب

وعهدت إليه بطفلها لبعض الوقت).

*الحرة

أضف تعليقك

إعلامي أردني مقيم في بلجيكا، متخصص في شؤون الشرق الأوسط والدراسات التحليلية والرصد الإعلامي. كتب مقالات منتظمة في عدة صحف أردنية وعربية، منها جريدة الرأي الأردنية والدستور، وجريدة القدس العربي. وعمل مراسلا لجريدة الإمارات اليوم، ومحللا سياسيا على قنوات ناطقة بالعربية مثل العربية وفرانس 24 ودوتشه فيلة وسي بي سي أكسترا .