تأويل الكلام: دراسة تطبيقيّة في الشّعر وأحوال الشّعراء. للدكتور غسّان عبد الخالق

 

 

 

صَدرَ كتابُ تأويلِ الكلامِ لمؤلِّفهِ الأستاذ الدّكتور غسّان عبد الخالق، بدعمٍ من وزارةِ الثقافةِ الأردنيّةِ سنةَ أربعَ عشرةَ وألفين، ويتضمّنُ مقدّمةً وخمسةَ فصولٍ، وتوزّع على مئةٍ وستٍ وأربعينَ صفحةً تقريبًا، من القطعِ المتوسّط.

يدورُ الكتابُ حولَ الشّعرِ، ويخصصُ المؤلِّفُ من شعرِ الشّعراءِ كالبياتي، وفدوى طوقان، وعرار، وحبيب الزّيودي، وجماعةِ أجراس، نموذجَ الدّراسةِ والتّحليلِ، والجدير بالإشارةِ أنّ معظمَ فصولِ الكتابِ دراساتٌ قصيرةُ قدّمها المؤلِّفُ ما بين سنة 1996 - 1999 ضمن أعمالٍ، وحلقات، وندوات، وملتقيات، نقديّة خاصّة. من هنا، يستعرضُ المقالُ باختصارٍ الرّؤيةَ المستخلصةَ والمطروحةَ في مضامينَ الكتابِ.

يطرحُ المؤلِّفُ في الفصلِ الأوّلِ الذي حملَ عنوانَ صيانةِ الحنينِ، تجربةِ البياتي في مهجره الإسبانيّ. ويميلُ -نقلاً عن الدّارسينَ- إلى أنّ ظاهرةَ الشّعرِ المهجريّ ارتبطتْ بسوريا ولبنان، وبلغتْ مداها بالإجماعِ عام 1913م في سعي النّاسِ؛ خصوصًا الشّعراءَ إلى تحسينِ أوضاعِهم المعاشيّة والتّمتع بحرّيةِ التّفكيرِ والتّعبير. ويذهبُ المؤلِّفُ إلى أنّ فاعليّةَ صيانةِ الحنين تمثّل أحدَ أهمّ الدّوافعِ والموضوعاتِ في الشّعرِ العربيِّ القديمِ والمعاصر، واحترازًا، يرى بأنّ البياتي يُعَدّ أحدَ حرّاسِ هذه الفاعليّة في الشّعرِ الحديثِ. 

يدعمُ المؤلِّفُ رأيَهُ بقوله بأنَّ الاستهلالَ الطّلليَّ للقصيدةِ العربيّةِ في العصرِ الجاهليِّ، أكثرُ الشّواهدِ دلالةً على مبلغِ تأصيلِ فاعليّةِ الحنينِ لدى الشّاعرِ العربيّ. انطلاقًا من هذا، يرى بـأنّ عبد الوهّاب البياتي يستندُ على الموروثِ الشّعري؛ لصيانةِ فاعليةِ الحنينِ في تجربتهِ الشّعريّةِ، وبهذا، يقارب المؤلّفُ رصدَ الكيفيّة التي تظاهرت فاعلية صيانة الحنين لدى البياتي في المغترب الإسباني. يتناولُ عبد الخالق نصوصًا شعريّة، وبالتّحليلِ، يرى بأنّ المكانَ المتمثّل ببغدادَ في نصّ البياتي معادلٌ موضوعي لمركزِ حنين الطّفولةِ، ومحاولة لاستعادة الطّفولة الضّائعة. لا يشكّ المؤلّف بأنّ تفكيرَ البياتي في الاتّجاه إلى إسبانيا بدأ قبل نهاية عام 1979م، وقد أتاحَ له الاطّلاع على ترجمات لنماذج من الشّعرِ الإسباني، مما انعكسَ هذا على شعرِه، ويذهبُ المؤلّفُ إلى أنّ اتّجاهَ البياتي إلى إسبانيا يستندُ إلى موروثٍ من الحنينِ المنطلق باتّجاهين:

- من الغربِ الأندلسيّ باتّجاه الشّرق العربي الطللي.

- من الشّرقِ العربيّ الطللي باتّجاه الغرب الأندلسيّ.

يدللُ المؤلّفُ بأبياتِ عبد الرّحمن الدّاخل، وقصيدة ابن زريق البغداديّ.

يقدّم المؤلِّفُ في الفصلِ الثّاني النّماذج التّراثيّة والنّزعة الوجوديّة في سيرةِ فدوى طوقان الذّاتيّة، وجدير بالذّكر هنا بأنّ فدوى طوقان نشرت سيرتها على جزأين وفترتين متباعدتين، هما:

- رحلة جبليّة 1967م.

- الرّحلة الأصعب 1992م.

وقفَ عبد الخالق على ظاهرتين رئيستين في السّيرة، هما: 

- الانشداد إلى نماذج تراثيّة محددة.

- تعالي النّزعة الوجوديّة المتشائمة.

إنّ ما لفت نظر المؤلّف في الجزءِ الأوّلِ من سيرتها الذّاتيّة، النّزعة الوجوديّة المتفائلة بالتّزامن مع الحقبة التي تلت هزيمة حزيران، وتفسير ذلك كما يراه اتّساع دائرة الأنا المفجوعة بأحزانها الذّاتيّة قبل عام ،1967 مقارنةً بالأنا الملتحمة مع أحزانها العامّة بعد عام 1967م.

يرى المؤلف بأنّ فدوى طوقان تمثّل نموذج دنانير؛ جارية يحيى البرمكي؛ لأنّها كما صرّحت في الجزء الأول من سيرتها بأن قصائدها الغزليّة كانت توقع باسم دنانير، وكلمة الحبّ اقترنت في ذهنها بالفضيحة والعار، وهذا أمر طبيعي جدًّا؛ فهي امرأة تنحدر من عائلة محافظة وتنتمي إلى مدينة ذات تقاليد عريقة ومحسوبة. وإذا كنا نوافق المؤلّف غسّان على أنّ فدوى طوقان تمثّل معادلاً رمزيًّا للجارية دنانير، وأنّ شقيقها إبراهيم طوقان اضطلع رمزيًّا بالدّور الذي اضطلعه يحيى البرمكي، فكيف نوافقه على أنّ امتناع فدوى طوقان عن كتابة الشّعر بعد موت شقيقها يقابل رمزيًّا امتناع دنانير عن الغناء للرّشيد؟

من الواضحِ هنا أنّ تصوّر غسّان عبد الخالق في امتناعِ فدوى طوقان عن كتابةِ الشّعرِ يعوزهُ الدّليل والمنطق، وفيه شيءٌ من التّسرّعِ كونه لا يستقيم رمزيًّا بمقابلةِ امتناعِ فدوى مع دنانير الجارية، ولسنا بالضّرورةِ نقرر إطلاق قوله من غير تروٍ، وإنّما نأخذ هنا بهذا التّصور، على أنّ فدوى طوقان امتنعت لأيامٍ أو أسابيعٍ أو أشهر بسبب الحزن، وهذا شيءٌ طبيعي، أمّا أن تمتنعَ عن كتابةِ الشّعرِ نهائيًا فهذا لا نوافقه جملةً وتفصيلاً؛ فقد مات إبراهيم سنة 1941، وصدرَ أوّلُ ديوانٍ شعري لها سنة 1954م، ولو سلّمنا جدلًا أنّها امتنعت عن كتابةِ الشّعرِ بعد موته، لنتساءل عن رثاء إبراهيم في قصائدها. 

يتطرّق المؤلِّفُ في الفصّلِ الثّالثِ إلى دوافعَ التّجربةِ الشّعريّةِ عند عرار من المنظورِ النّفسيّ، ويقدّمُ ترجمةً متأخرةً عن حياتِه، ونشأتِه، وتكوينِه الفكريّ. كما يقيم المؤلّفُ مقارنةً بين عرار وأبي نوّاس، ويظهر أنّه أفادَ كثيرًا من دراسةِ العقّاد المعمّقة في تحليلِ شخصيّةِ أبي نوّاس، مما جعلهُ يُسقطُ مصطلحات دراسة العقّاد على عرار وشعره في المعالجةِ. وقدّم المؤلِّفُ موازنةً بين الشّاعرين من خلالِ قصيدتين، هما:

- دعْ عنك لومي فإنّ اللوم إغراء.

- بالنّفس يا شيخ من تقواك أشياء.

أدرك المؤلّفُ كغيره مدى التّشابه الكبير بين أبي نوّاس وعرار، من حيث التّعلّق بالأم، وإطالة الشَّعر، واللثغ بحرف الرّاء، والتّولع بالجنّ والشّياطين، والمجاهرة المفرطة بشرب الخمر، والمقاربة في الوفاة.

وذهبَ من خلال التّحليل النّفسي إلى أنّ إغراق عرار في الشّرب بمنزلة تعويض عن فقدان أمّه المطلقة التي كانت تمخضه الحنان رغم حدّة طباعها. والنتيجة التي خلص إليها، أنّ عرار يُحاكي أبا نوّاس في شعره شكلاً ومضمونًا، خصوصًا خمرياته مع تحوير بسيط، وتمنّينا لو أنّ المؤلّفَ بذلَ جهدًا على جهده في تقديمِ تشريحِ وتحليلِ أكثرَ من الوقوفِ على الظّاهرة.

إنّ ما يجذبُ القارئ، عنوان الفصل الرّابع الموسوم بـ إزاحة الأب بين عرار وحبيب الزّيودي، وقبل الولوج في استخلاصِ الرّؤية والفكرة، يتبادر إلى الذّهنِ سؤالٌ حولَ طبيعةِ الإزاحة؟ 

والجدير بالملاحظة أنّ هذا الفصل يعدُّ من أقصرَ الفصولِ من حيثُ عددُ الصّفحاتِ قياسًا إلى بقيّةِ فصولِ الكتاب، ولقد كان جديرًا بالمؤلِّفِ في هذا الفصل أنْ يستفيضَ أكثر؛ ليفتح دراسةً خصبةً لمجالٍ جديدٍ من الدّراسات.

وعلى العمومِ، فإنّ جملةَ القولِ في الفصلِ الخامسِ؛ هي أنّ موازنةَ المؤلّفِ جاءتْ من منطلقِ حضورِ الأبِ في شعرِ حبيب واستحضاره لعرار على مستوى التّوظيفِ الشّكليّ وزنًا وقافيةً. 

يستعرضُ المؤلّفُ باستفاضةٍ في الفصلِ الخامسِ الشّعراءَ الشّبابَ في الأردنِ، ويتناولُ جماعةَ أجراس كنموذج، متمثلةً بالشّاعرِ أمجد ناصر، وزياد العناني، وجريس سماوي، ويوسف أبو لوز، وزهير أبو شايب، ويوسف عبد العزيز، وعلي العامري، وغيرهم. 

إنّ عنوانَ الفصلِ الخامسِ وهو الأخيرِ في الكتابِ، يقودنا إلى أسئلةٍ كثيرةٍ مشروعةٍ، لا بدّ للمؤلّف الإجابة عنها، منها:

- ما المقصود بشعرِ الشّباب؟

- هل يقتصر معنى الشّباب على البعد الزّمني بالمعنى البيولوجي؟

- هل شعر الشباب مرتبط بفترة زمنيّة محددة؟

يخلصُ المؤلّفُ إلى أنّ شعراءَ الشّبابِ يمثّلُ إحدى الصّيغِ الممكنةِ لنظريّةِ الأجيالِ، ويرى بالإمكانِ الاتّساعِ به ليشمل شعراء تخطّوا عتبة الأربعين. مما لا شكّ أنّ في مصطلحِ شعراءِ الشّبابِ، كما يتبنّاه المؤلّفُ، تعترضنا مشكلةَ تحديدِ المصطلحِ، ولعلّنا لا نصادر المؤلّفَ على شيءٍ إذا أشرنا إلى ما ينطوي عليه مصطلحُ شعراءِ الشّبابِ من فوضى وارتباك، ولا بدّ هنا من فضّ الاشتباك على مستوى المفاهيم، ولعلّ المقاربة النّقديّة للمسألةِ تبدو أقرب كما يرى كثيرون من الباحثين والنّقاد إلى مصطلحِ الشّعرِ الجديدِ. 

بالمجملِ، يرى المؤلّفُ بأنّ القصيدةَ في النّصفِ الثّاني من عقدِ الثّمانينيات، كانتْ تستمدُ رؤاها من الحدثِ السّياسي والهموم الوطنيّة. وإذا ما حاولَ القارئُ التّوقفَ قليلاً عند الأسبابِ التي دعتْ المؤلّف إلى دراسةِ جماعة أجراس كظاهرةٍ شعريّةٍ برزتْ في التّسعينيات كما يزعم، لوجدنا التّقارب العمريّ بين شعرائها وتعرّضهم لظروف تاريخيّة وثقافيّة متشابهة، واعتناء شعرائها بإصدارِ بيانٍ مشترك يسوّغ دراسة الجماعة نقديًا، وإصرار أعضاء الجماعة على الاستمرارِ في الحضورِ الشّعريّ عبر النّشر في الصّحف والمجلات.

يضيف المؤلّف أنّ التّغيّر الرّئيس والجوهري الذي أحدثتهُ جماعة أجراس، كما حلا أنْ يسمّيه، يتمثّل في القيامِ بانقلاب شعري شكلاً ومضمونًا. 

وعمليًّا، يتناولُ المؤلّفُ خمسةَ نماذجَ شعريّة لشعراءَ أردنيين على التّوالي: باسل الرّفايعة، ومحمّد عبيد الله، وعلي العامري، وغازي الذيبة، ومحمّد العامري، والحقيقة أنّ المؤلِّف أجادَ تحليلَ النّماذجِ المطروقة من حيثُ الوصفُ، والدّرسُ، والنّقدُ.

بالتّحليلِ، استخلصَ المؤلِّفُ حضورَ عرار وتيسير في ديوانِ "خماسين الوطن" لباسل الرّفايعة، إلى جانبِ حضورِ الحسِّ الوطنيّ والعروبيّ. أمّا ديوانُ "مطعونًا بالغياب" لمحمّد عبيد الله، يرى بأنّ المسحة الغنائيّة تهيمن على القصائد، ويذهبُ إلى أنّ ديوانَ "هذي حدوسي" لعلي العامري بانطوائه على توقٍ جارف للإمساكِ بتفاصيل الباطن، في حين يحتفلُ ديوان "جمل منسيّة" لغازي الذّيبة بتفاصيل المكان، كما يرى بأنّ استخدام الشّاعر الألفاظ العاميّة، جاء إفرازًا طبيعيًّا للرؤيةِ الواقعيّة، كون الواقعيّة التّعبيرَ الأصدقَ عن حركةِ المجتمع. ويطلق المؤلِّف رأيًا عامًا بأنّ حالةَ شعريّة لافتة تستوطن الشّاعرَ محمّد العامري، وبالنّتيجة، ذهبَ إلى أنّ الكلامَ عن تجربةِ محمّد العامري في ديوانه "خسارة الكائن"، يستدعي النّظر إلى تجربته في الرّسم، بحيث يستعين العامري بالتّقنيات البصريّة والهندسيّة.

وأخيرًا، فإنّ كتابَ تأويلِ الكلام من شأنه أن يفسحَ المجالَ للدّارسينَ إلى استكمالِ ما طرحهُ المؤلّف من موضوعات انطلاقًا من أهميّتها، خصوصًا المتعلّقةَ بالشّعرِ الأردنيِّ، وإذا كانَ لي من ملاحظةٍ أبديها في ضوءِ قراءةِ الكتابِ، فهي ملاحظة تفاوت واضح في عددِ صفحاتِ الفصول، وقد جاءت الفصول كلًّا على حدةٍ في صورةِ تجميعٍ وتنسيقٍ غير منتظم شكليًّا. بالرّغمِ أنّ المؤلّفَ يحصر دراسته في نماذجَ من الشّعرِ العربيّ الحديث، إلّا أنّه كثيرًا ما يوسّع دائرة المعالجة في التّعريضِ إلى شعراءَ جاهليين وعباسيين من أمثالِ امرئ القيس، وعنترة، وأبي تمام وأبي نوّاس والمتنبي، وغيرهم.

• باحث وناقد مستقل، حاصل على درجة الدكتوراه في الأدب والنقد الحديث.

 

 

أضف تعليقك
أحمد البزور، مواليد الزّرقاء، سنة ١٩٩٠، حاصلٌ على درجة الدّكتوراه في الأدب والنّقد الحديث من الجامعة الأردنيّة، وعضو في الاتّحاد الدّولي للغة العربيّة، ولديه العديد من الأبحاث المنشورة في مجّلات محليّة وعربيّة محكّمة، وكتب عددًا من المقالات والمراجعات عن الأدب والنّقد في الصّحف والمواقع الإلكترونيّة المتخصصة.